عندما كنت مُستلقياً في منزلي، في عصيرة من عصاري جُدة اللطيفة، إذ بقارع يقرع الباب، نهضت فاتحاً الباب، ويا للمفاجأة، إنه وفد بني كلاب، يتقدمهم كلب أملح وسيم، تبدو عليه علامات الوقار وسمات الهدوء، وفضيلة التواضع والحكمة والنبل! طلبت من الوفد التفضل بالدخول على طريقة الغربيين في احترام الكلاب فدخلوا والأدب يستحوذ عليهم، غاضّين البصر، ومُعطين البيت حرمته، وبعد أن أخذوا مكانهم في الجلوس، تناولوا ما تيسر من لذيذ المأكل والمشرب، ثم تقدم كبيرهم طالباً الكلمة، محاولاً التلطف بالاستئذان، مدركاً آداب الحديث والكلام! وبعد أن سمحت له بالحديث، أخذ نفساً عميقاً، وقال: تعلم يا أبا سفيان أن الكلاب مخلوقات من مخلوقات الله جلّ شأنه ليس لهم أي خصوصية تميّزهم عن الحيوانات الأُخر، إلا ما كان من فروق فردية، وهبها الكريم الوهاب وأودعها في مخلوقاته! ولتعلم أيها الرجل المهذب أننا أتينا إليك متضّجرين شاكين وحانقين على بني قومك وأهلك ومجتمعك البشري. إننا نخاطبك ونستحلفك بالله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم هل أنت راضٍ عمّا لحق بسمعة بني كلاب من عيوب وأرزاء، ومثالب ومساوئ، ألصقها بنا بنو جلدتك أولاد آدم؟! واسمح لنا أيها الرجل الطيب أن نستعرض لك جزءاً يسيراً من فضائل الكلاب على الصعيدين العملي والسلوكي.. لقد قال أجدادك يا أحمد في أمثالهم: (آلَفُ مِنْ كَلْبٍ)، وقالوا: (أَشْكَرُ مِنْ كَلْبٍ)، وكذلك عندما أراد شاعركم علي بن الجهم مدح ممدوحه على سبيل النفاق الاجتماعي الذي تمارسونه لم يجد مثلاً في الوفاء إلا الكلب، فقال: أَنْتَ كَالْكَلْبِ فِي حِفَاظِكَ لِلْوُدِّ * وَكَالتَّيْسِ فِي قِرَاعِ الْخُطُوبِ وانظر إلى أحمد شوقي شاعر الأمراء كما نُسمِّيه، وأمير الشعراء كما تسمونه عندما أراد أن يصف رفيق دربه حافظ إبراهيم بالخيانة، لم يجد مفراً من مقارنته بنا، لذا قال: وَحَمَّلْتُ إِنْسَاناً وَكَلْباً أَمَانَةً * فَضَيَّعَهَا الإِنْسَانُ وَالْكَلْبُ حَافِظُ مع تحفظنا الشديد على بلاغة أحمد شوقي، عندما أراد أن يقول أن حافظ إبراهيم كلبٌ، في حين أننا لا نرى أن حافظاً ستدركه الشتيمة إذا وُصف ب”الكلب”! وتعلم أيها العزيز أن جدنا (كلب أهل الكهف)، وقيل أن اسمه (قطمير) كان عنصراً أساسياً في الرحلة الكهفية، وكان عددكم البشري غير ثابت بين الثلاثة إلى الثمانية، في حين أن جدنا كان فاعلاً رئيسياً في معادلة الفِتية الذين آمنوا بربهم، فزادهم الواحد القهار هدى ونوراً وربط على قلوبهم! وتظهر أهمية جدنا الكلبي في السياق القرآني، حين أشارت الآية الكريمة إلى طريقة جلسته، وحركة ذراعيه، وقد قال بعض مفسريكم أن جدنا قطمير الكلبي سيدخل الجنة مع أولئك الفتية، على حين أن أكثر من في الأرض من بني البشر ضالِّين سيدخلون جهنم داخرين! قال تعالى: (وَإِنْ تَتَّبِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)! وتعلم يا أحمد وغيرك المُعلّم أن الكلب معادلة من معادلات فعل الخير،إذ أدخل أحد أبناء جلدتك الجنة، وبالتأكيد أنك قرأت ذلك الحديث النبوي الشريف أن رجلا دخل الجنة (دار المتقين)،حين اسقي كلبا ، لأن في كل كبد رطبة أجراً! إن جدنا الكلبي في هذا الحديث الشريف، كان سبباً لدخول دار النعيم، لذا فهو يُعادل بطريقة من الطرق: الأم، التي يدخل واحدكم الجنة بالبر بها! وتتذكر يا أبا سفيان بأن أجدادك من البشر سَمُّوا أبناءهم بكلب وكليب، كأنهم قصدوا بذلك التفاؤل بمكالبة العدو وقهره، أو تيمناً بأمانة الكلب وحراسته ويقظته، وبعدَ صوته ووفائه، وغير ذلك من صفات الكلب الحميدة التي كانوا قومك عنها غافلين! والكلاب يا أحمد لها فضل كبير على المدن والحواضر الإسلامية، وقد ذكر أحد زائري استنبول من الفرنسيين في منتصف القرن الثامن عشر، وهو الكاتب إكسافييه مارييه، أن الكلاب الضّالّة في تلك المدينة شرٌّ لا بد منه، إذ كان يمكن أن تتسبب القمامة لو لم تأكل الكلاب جانباً عظيماً منها، في انتشار الأوبئة، وقد ذكر المفكر حسين أحمد أمين أن القاهرة والإسكندرية، لم تكونا بعيدتين عن استنبول في ذلك الوقت، غير أن والي مصر آنذاك محمد علي باشا، رأى الوباء الناجم عن الكلاب الشريرة أخطر شأناً من ذلك الناجم عن القمامة، فجمع عدداً غفيراً من تلك الكلاب ملأ به سفينة كبيرة، ثم أغرقها في البحر! ولا يغرنّك يا أحمد ما قاله مفكركم حسين أحمد أمين عن محمد علي، فنحن لم نُبادر بالاعتداء، وكل الخطر الذي ادّعوه علينا، كان من باب الدفاع عن النفس، هذا حالنا مع بني جلدتكم، إنكم تُلقون علينا التُّهم جُزافاً، في حين أننا لا نردُّ عليكم، لأننا مشغولين بحياتنا الخاصة، وحالنا معكم مثلما قال شاعركم المُتنبِّي في معاتبة سيف الدولة، حين جعله الخصم والحكم، وهذا يُنافي المنطق والعقل، اللذان تدّعون التعامل معهما: يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إِلاَّ فِي مُعَامَلَتِي * فِيكَ الْخِصَامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ لقد ظننتم أن الكلاب فصيلة واحدة، في حين تقولون أن البشر مُختلفون في الطبع والسلوك واللون واللغة، ونحن كذلك، هل أذكر بمثلكم الدارج (أصابع اليد ليست مُتماثلة)؟! وكذلك الكلاب! وكلّ ما تراه من التقزز والازدراء الذي يُبديه قومك وخاصة المسلمين منهم تجاهنا نحن بني كلاب، ناتج عن تعميم الخاص، فالكلاب مثلها مثل بقية مخلوقات الله، منها الخبيث ومنها الطيب، وكل الآثار التي تسيء لنا قيلت في ذم نماذج معينة من الكلاب! أنتم عندكم أبو لهب حطب جهنم، وامرأة لوط، والحجاج بن يوسف، وصدام حسين، وهتلر.. والقائمة تطول في سرد من يزرعون الأذى في طريق الحياة، ونحن كذلك فينا الكلب المسعور، والكلب العَقور، والكلب الشرير، والكلاب الضالة “كلاب الشوارع” التي تنشر الأوبئة مثل مرض الكَلَب”1′′ لقد أنصفنا نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم: (أَمَرَ رَسُولِ اللهِ بِقْتْلِ الْكِلاَبِ، ثُمَّ عَادَ فَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ، وَكَلْبِ الْغَنَمِ)، وفي حديث آخر: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ، ثُمَّ نَهَانَا عَنْ قَتْلِهَا)، وقيل أنه استثنى من القتل كلب الصيد، وكلب الدار، وكلب الدرب، وكلب الغنم، وكلب الزرع. وقد قال بعضهم: (من الواضح من هذا أن أمر القتل كان مبنياً على علة وظروف خاصة، ووضع المدينةالمنورة في ذلك الوقت، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، عاد فاستثنى من الأمر تلك الكلاب التي لا دخل لها في انتشار الوباء، والتي يحتاج الإنسان إليها في رعاية مصالحه. وقد تكرر صدور الأمر بقتل الكلاب في عَهْدَيْ أبي بكر وعثمان، ولنفس العلة، وقد قيل “مَا خَطَبَ عُثْمَانُ خُطْبَةً إِلاَّ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ وَذَبْحِ الْحَمَامِ”)! أحمد أيها الرجل المحترم اعلم رحمك الله تعالى، أن خبر النجاسة الذي ألحق بنا (عار من الصحة)! لقد نسبَ بعض الناس النجاسة إلينا، وهو ما لم ينسبه القرآن الكريم إلينا، وهذا ما يخالف مفهوم حديث ابن عمر الذي أورده البخاري في صحيحه: (كَانَتْ الْكِلاَبُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبُولُ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ) يعني الماء لتطهير المكان! إن بعض أئمتكم يجزمون بطهارتنا، وهاهو إمام أهل الحديث الإمام مالك يعتقد طهارة الكلب، والزهري، وداود، والحسن البصري، وعروة بن الزبير، يرونه طاهراً، ولكن (يُغْسَلُ الإِنَاءُ مِنْ وَلَغِهِ)، ورجال الشريعة يجيزون اقتناءه وشراءه وبيعه، والإيصاء به، ويقضون على من قتل كلباً أن يدفع ديته لصاحبه. والماوردي والنووي ومسلم يذهبون إلى عدم جواز قتل ما لا ضرر فيه من الكلاب، والكافة متفقون على جواز اتخاذه للزراعة والماشية والصيد، هذا فضلاً عن أن بعض المفسرين يقول في قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أن المحروم هو الكلب، وأن إطعامه واجب على المسلم! يا أحمد، لقد شتَمَنا قومك كثيراً، وقالوا: (جَوِّعْ كلبك يتبعك)، وألصقوا بنا أقبح الصفات، وأنا أستحلفك بالله مرة أخرى، هل سمعت بكلب فجّر بناية؟! بل العكس الكلاب هي التي تكشف المتفجرات وتحفظ الناس من المخدرات، ولا نريد منكم على هذا العمل جزاءاً ولا شُكوراً! هل قرأت أن كلباً أقصى كلب آخر لاختلافه معه في الرأي، وأصدر بحقه منشوراً يقضي بإهدار دمه؟! هل سمعت بقطيع من الكلاب يُسمِّي الهزيمة نكسة، والتوَلِّي يوم الزحف تكتيك، والانسحاب مراجعة، والخسارة نكبة، والإخفاق كبوة؟! هل سمعت في حياتك أن كلاباً اجتاحت وغزت كلاباً أخرى مجاورة لها، وسمّت ذلك “حالة”؟! هل قرأت أن هناك حروباً أو بطالة أو فقراً، أو قتلاً أو سرقة أونظاما ل(حافز) بين فصائل الكلاب؟! إننا يا سيدي مجتمع يفوق في ترتيبه وفضيلته ما قاله فيلسوفكم أفلاطون في (مدينته الفاضلة)! نحن الكلاب لم يتوقع أحد منا الإفساد في الأرض ، مثلما توقّعته الملائكة منكم معشر البشر! لكنّ حكمة الله جلّ وعزّ وهو الحكيم الخبير اقتضت خلقكم على ما كان منكم من الفساد! قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)! إننا معشر الكلاب نعلم أن الله كرّمكم على كثير ممن خلق، وهذا لا يُعطيكم المبرر لتوزيع الشتائم علينا، وصبّ أقذر الكلام على جنسنا، لأننا لم يصفنا أحد بالفساد والجدال والنكران، والجزع والخيانة! اسمع ماذا قال بعض شعراءكم فينا، يقول الحارث بن صعصعة: فَيَا عَجَباً لِلْخِلِّ يَهْتِكُ حُرْمَتِي * وَيَا عَجَباً لِلْكَلْبِ كَيْفَ يَصُونُ رغم تحفظنا الشديد على التعجب، لأن مقارنتنا بكم لا تضيف لنا رتبة أو مرتبة، بل هي مذمة، من هنا قالوا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ * إِذَا قِيلَ أَنَّ السَّيْفَ أَمْظَى مِنَ الْعَصَا إننا نفرح بالضيوف، ولا نمارس الازدواجية الاجتماعية، الذي تتعاطونها في الضيافة، وقد وصف شاعركم إبراهيم بن هرْمة أحد كلابنا الكرماء، قائلاً: يَكَادُ إِذَا مَا أَبْصَرَ الْمَرْءَ مُقْبِلاً * يُكَلِّمُهُ مِنْ حُبِّهِ وَهُوَّ أَعْجَمُ وقد حاولتم أن تتقربوا إلينا كثيراً، ومن يُطالع كتب التراث، يجد أن هناك أوقافاً كثيرة، كانت توقف لصالح (الكلاب الضّالّة)، و(الكلاب الهرمة)، خاصة في الشام ومصر. وبعض أثريائكم يترك في وصيته مبلغاً من المال يُنفق على كلابه، رغم أنكم معشر العرب تقولون أن هذه الممارسات من حماقات الغرب، بينما هي موجودة في تراثكم! هل أذكرك بكتابكم التراثي (فَضْلُ الْكِلاَبِ عَلَى مَنْ لَبِسَ الثِّيَّابَ) للمرزباني، الذي حاول فيه مؤلفه التقرب إلينا بتعداد فضائلنا! كفى -يا أحمد- سخرية وانتقاصاً منا، قل لقومك يتوقفوا فوراً عن هذا الحقد الذي لا مبرر له.. بأي حق يستكثر علينا الإمام الشافعي أكل لحم الضأن؟! ألسنا من مخلوقات الله، والله يرزق من يشاء بغير حساب؟! لقد أساء لنا الشافعي رغم أنه حاول أن يسترضينا بعد ذلك، ولكن الحسرة ما زالت في النفس من قوله: تَمُوتُ الأُسْدُ فِي الْغَابَاتِ جُوعاً * وَلَحْمُ الضَّأْنِ تَأْكُلُهُ الْكِلاَب!!! اسمع يا صاحب القلب الكبير ماذا يقول عنا شيخكم وأديبكم الرائع الجاحظ في وصف فضائلنا التي لم تنالوا ولو جزءاً يسيراً منها، يقول: (الْكَلْبُ حَيَوَانٌ كَثِيرُ الْوَفَاءِ، قَلِيلُ السَّآمَةِ، صَبُورٌ عَلَى الْجَفْوَةِ، حَمُولٌ لِلْجِرَاحَاتِ الشِّدَادِ، وَمِنْ طَبْعِهِ أَنَّهُ يَحْرُسُ صَاحِبَهُ وَيَحْمِي حُرْمَتَهُ، شَاهِداً وَغَائِباً، نَائِماً وَيَقْظَاناً، وَهُوَ أَيْقَظُ الْحَيَوَانِ عَيْناً فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ لِلنَّوْمِ، وَهُوَ فِي نَوْمِهِ أَسْمَعُ مِنْ فَرَسٍ، وَإِذَا نَامَ كَسَرَ أَجْفَانَ عِيْنَيْهِ، وَلاَ يُطْبِقُهَا وَذَلِكَ لِخِفَّةِ نَوْمِهِ. وَمِنْ أَنَفَةِ الْكَلْبِ أَنَّهُ لاَ يَرْضَى بِالنَّوْمِ، وَالرُّبُوضِ عَلَى عَفَرِ التُّرَابِ مَتَى رَأَى الْبِسَاطَ، وَلاَ يَرْضَى الْبِسَاطَ إِذَا هُوَ وَجَدَ الْوِسَادَةَ، فَمِنْ نُبْلِهِ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ دَائِماً أَنْبَلَ مَوْضِعٍ فِي الْمَجْلِسِ)! إننا يا سيدي أحمد، نتمتع بصفات منحنا إياها العلاّم الحكيم، من منكم يملك ما قاله الجاحظ عنا؟! ويكفي أنه يقول أننا نجيد فضيلة التعلم، لا ندّعي العلم والمعرفة كما تفعلون، بل نُمارس حياتنا وفق إمكانياتنا المُتاحة، وقدرتنا على التعايش في ظل فن الممكن، بعيدين عن المثاليات والفضائل المُجردة، ويكفي أننا نتمثل آداب الطعام على الطريقة (الكِلابية)، التي آمنّا بها! اسمع أيضاً ما رصده الجاحظ من خلال إقامته بيننا في وصفنا وليس من رأى كمن سمع: (وَالْكَلْبُ يَقْبَلُ التَّأْدِيبَ وَالتَّلْقِينَ وَالتَّعْلِيمَ، حَتَّى لَوْ وَضَعْتَ عَلَى رَأْسِهِ مِسْرَجَةً، وَطَرَحْتَ لَهُ طَعَاماً، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، فَإِذَا أَخَذْتَ الْمِسْرَجَةِ مِنْ رَأْسِهِ وَثَبَ إِلَى الطَّعَامِ. وَمِنْ عَجِيبِ طِبَاعِهِ أَنَّهُ يُكْرِمُ الْجُلَّةَ”2′′ مِنَ النَّاسِ، وَأَهْلُ الْوَجَاهَةِ، وَلاَ يَنْبَحُ أَحَداً مِنْهُمْ، وَرُبَّمَا حَادَ عَنْ طَرِيقِهِ، وَيَنْبَحُ الدِّنِسَ الثِّيِّابَ مِنَ النَّاسِ، وَالضَّعِيفَ الْحَالِ، وَمِنْ طِبَاعِهِ الْبَصْبَصَةَ وَالتَّرَضِّي، وَالتَّوَدُّدَ وَالتَّآلُفَ، بِحَيْثُ إِذَا دُعِيَ بَعْدَ الضَّرْبِ وَالطَّرْدَ رَجَعَ، وَإِذَا لاَعَبَهُ صَاحِبُهُ، عَضَّهُ الْعَضَّ الَّذِي لاَ يُؤْلِمُ، وَأَضْرَاسُهُ لَوْ أَنْشَبَهَا فِي الْحَجَرِ لَنَشَبَتْ! وَفِي الْكَلْبِ مِنْ اقْتِفَاءِ الأَثَرِ، وَشَمِّ الرَّائِحَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَالسُّلُوقِي مِنْهَا يَعْرِفُ الْمَيِّتَ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْمُتَمَاوِتِ، حَتَّى أَنَّ الرُّومَ لاَ تَدْفِنُ مَيْتاً حَتَّى تَعْرِضَهُ عَلَى الْكِلاَبِ لِتَتَيَقَّنَ مِنْ مَوْتِهِ)! أحمد أيها الكاتب إنه ليُزعجنا أن تصفوا الحقير من أبناءكم بالكلب الذي يحرس أموالكم وأغنامكم، ويحمي خيامكم في السابق، ومنازلكم في اللاحق، في حين أنكم تصفون النجيب من أبناءكم بالذئب، الذي يأكل بهائمكم، ويغدر بكم، ويحتال عليكم! إننا يا صاحب الحبر الشجاع أتينا إليك يسوقنا العشم، ويحدونا الأمل، أن تطلب من قومك أن يكفوا عن الزج باسمنا في متاهات النجاسة، ودهاليز الخساسة، ومواقع الشتم، ولولا عشمنا فيك، لأخذنا ثأرنا بأيدينا، وأنت تعرف أننا لسنا قليلي حيلة ولا جبناء، ولا نخاف في الدفاع عن أنفسنا لومةً من بني آدم! إننا نتطلع إلى ذلك اليوم الذي تتركوننا فيه نمارس حياتنا التي خُلقنا من أجلها، إننا نحدثكم الآن بمنتهى الأدب، وإذا لم يتوقف قومك عن الخوض في شؤوننا الداخلية، فلا يلوموا إلا أنفسهم، وقد أعذر من أنذر! ولتعلم أننا نستفيد من أخطائنا، وقد أثبت عالِمكم الكبير بافلوف أن الكلب لا يُلدغ من نفس الجحر أكثر من مرّتين! إننا يا أبا سفيان، لا نتشرف بكم، واعتذر لنا من الإمام الشافعي الذي تمنى مجاورتنا، لأننا نريد أن نعيش بسلام، إننا نحب الحياة، ولن ننسى نصيبنا منها، وأنتم أناس أُلهمتم في نفوسكم الفجور والشرور والغرور.. إننا نعتذر للإمام الشافعي عن تحقيق أمنيته التي قال فيها: لَيْتَ الْكِلاَبَ لَنَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً * وَلَيْتَنَا لاَ نَرَى مِمَّنْ نَرَى أَحَداَ إننا يا سيدي نُطالبكم أمام هيئة الأمم الحيوانية المُتحدة، أن تعودوا إلى كُتب تراثكم، لتجدوا الغريب والعجيب من احترام أسلافكم البشريين لنا، ففي مناقب الإمام أحمد بن حنبل أنه بلغه أن رجلاً من وراء النهر عنده أحاديث عن الرسول، فرحل إليه، فوجده يُطعم كلباً، فسلم عليه ابن حنبل، فرد السلام، ثم انشغل عن ضيفه بإطعام الكلب، فاغتاظ ابن حنبل، إذ أقبل الشيخ على الكلب ولم يُقبل عليه! فلمّا فرغ الشيخ، التفت إلى ضيفه وقال: (كأنك وجدت في نفسك، إذ أقبلت على الكلب ولم أقبل عليك)؟! قال: (نعم). قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم “مَنْ قَطَعَ رَجَاءَ مَنْ ارْتَجَاهُ، قَطَعَ اللهُ مِنْهُ رَجَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَلِجِ الْجَنَةَ” وقد قصدني هذا الكلب، فخفت أن أقطع رجاءه فيقطع الله رجائي منه)! فقال ابن حنبل: (هذا الحديث يكفيني منك)، ثم رجع! يا أحمد، لقد أنصفنا الكاتب الفرنسي، حين قال: (عندما عاشرت الناس ازداد حُبِّي لكلبي)! انتهى حديث كبير وفد بني كلاب، وخرجوا من عندي بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم، وخرجوا وأنا أغطي وجهي خجلاً من أفعال بني قومي! حقا ،إنني شعرت بما شعر به شاعرنا الكبير أحمد الصافي النجفي، عندما رأى احتيال البشر على الكلاب في إخفاء الصيد الذي تصيده الكلاب، فقال وأقول معه، ولنا الحق فيما نقوله: صِرْتُ أَخْشَى مِنْ نِسْبَتِي لأُنَاسٍ * فَضَحُونَا حَتَّى أَمَامَ الْكِلاَبِ * هوامش: 1. 1. الكلَب: بفتح اللام، هو الداء والمصاب به كِلب، بكسر اللام، . أو كَلِيب، وكانت العرب تعتقد أن الكلب المسعور قد سيطرت عليه الجن! 6. 2. الجُلّة: عِلية القوم وكبارهم. أحمد العرفج [email protected] حساب تويتر arfaj1