الدلال والدليل وكذلك الدلالة كلها كلمات تطلق على من يدلنا على الشيء ويرشدنا إليه، فقول عن المرأة دلالة، وعن الرجل دلال، فالدلال كما نعرف هو الرجل الذي يدل على السلعة، إما بالإعلان عنها والمناداة عليها في السوق لبيعها ونسميه ( محرّج ) أو عرض السلعة أو المنتج في محل ودكان ليأتي الزبون أو العميل المحتاج فيشتريه ويكون للدلال مبلغا مقابل الأتعاب، ويطلقون عليه أحيانا ( عشاء الدلال ) ويقصدون بذلك أنه يصرفه في قيمة وجبة عشاء، ويفهم منه أنه ليس بكثير، بينما قيمة السلعة وأرباحها فهي لصاحبها، ويتفق مسبقا على قيمة الأتعاب فإن لم يتم الاتفاق كان العرف السائد هو المعمول به. أما الدلالة فهي المرأة التي تبيع بعض السلع البسيطة على مستوى القرية، وتدل على البضائع التي عندها عن طريق التجول بعينات منها. وهي في الغالب سلع تأتي بها من أماكن بيع الجملة في المدن القريبة فتزيد في ثمنها بمقدار ربح يناسب أتعابها، وبعض السلع وضعت عندها لتبيعها بمقابل أتعاب، ولا تكاد تخلو قرية من بعض النساء الكبيرات في السن يعملن كدلالات لهن تجارتهن البسيطة في دورهن كما يتنقلن بين الدور وهذا التنقل منظم وليس عشوائيا كما يعتقد، فهي إذا زارت أهل دار، لم تزرهم مرة أخرى بل تباعد بين زياراتها، حتى لا تمللهم أو تثقل عليهم، وبقدر ما يلفت النظر زبيل الدلالة لكثرة محتوياته، فإنه أيضا يشم منه دوائح متعددة تفوح في كل مكان قريب منها ما بين رائحة الطيب أو البهارات والكمون والجاوني وأيضا الرشاد والمشاط والحلبة، وتكون تلك الروائح غريبة خاصة في بيئة الأمس التي لا يوجد فيها ما يثير حاسة الشم لخلوها من ذلك. ومهنة الدلالة قديمة جدا فقد رافقت وجود السلع والبضائع والمتاجرة بها وهذا أمر طبيعي، فالتجارة تعني كل حركة بيع وشراء صغرت أو كبرت والإنسان بطبعه متتبع لرزقه. فكانت الدلالة في القرية تبيع بعض عينات قليلة من منتجات المزارع من باذنجان وقرع وتمر وبصل ورمان وعنب وبذور الرشاد والحلبة والكمون وغيرها بحسب طلب ورغبة النساء، حيث تطلبها بعضهن ويكون شراؤها من الدلالة أسهل من الدكاكين، وكذا المنتجات الحيوانية مثل الأقط والسمن والزبدة، ثم المصنوعات اليدوية كالأقمشة والصوف وبعض المستلزمات التي يصنعها أهل القرية وبعض الحلي كالأقراط والخلاخل وبعض الصابون والألياف لتنظيف الجسم وغيرها ومن سمات تجارة وعمل الدلالة ثباتها مددا طويلة على حاله، فهي لا تطور تجارتها ولا تتوسع في المعروضات بل تكتفي بحالتها العادية وتجارتها البسيطة.وتهدف منها طبعا القيام بمصاريف بيتها وأهلها بقناعة في ربحها.وهي سريعة في تصريف بضاعتها ولديها قدرة فائقة في الدعاية والتسويق بشكل مؤثر مما يجعل بضاعتها جديدة باستمرار والعائد منها فوق المتوقع.وبهذا تستطيع الصرف على بيتها والادخار في سنوات قليلة بحيث تتفوق أحيانا على أصحاب الدكاكين من الرجال الذين يظنون أنهم أكثر معرفة بالتجارة من الدلالات. ولا تنافس الرجال في الاستحواذ على السوق في القرية، ذلك لأن لها زبوناتها داخل البيوت من النساء، أما الرجال فهم في دكاكينهم وأغلب ما يعرضون: مستلزمات أكثر تنوعاً، مثل الصابون والهيل والقهوة والقماش والأقلام والدفاتر والأحذية والمسامير والحبال والسرج والأقفال والسمن والتمر والسكر والشاي والكبريت والقمح ويقل فيها جدا حاجات تخص المرأة كالملابس الداخلية مثلا وأدوات الزينة والحلي والأحذية وملابس الأطفال الصغار، ولوازم الخياطة والعطور النسائية .. الخ ويضرب المثل الشعبي للتنوع وكثرة الأصناف فيقال ( زبيِّل دلالة ) وكلمة: زبيِّل، تصغير زبيل وهو وعاء يصنع من خوص النخل له عروتان في أعلى جانبيه يحمل بهما. والدلالة عادة تتجول بزبيل معها متوسط الحجم ليس بالكبير المثقل لها، ولا بالصغير الذي يضيق بأصناف بضاعتها، وفي هذا الزبيل عينات كثيرة مما لديها، تعرضه على النساء في بيوتهن كنوع من الدعاية لما عندها وخاصة ما يستجد لديها ما بين زيارة وأخرى، وهي بهذا الطواف بزبيلها على الدور تكون قد عملت بأسلوبين تجاريين هما: توصيل الطلبات لأهل الدور واستقبال النساء في دارها. وهذا جعل لها تميزا وتفوقاً على تجارة الرجل حيث يجلس في باب دكانه ينتظر حضور العميل . وتأخذ الدلالة في زبيلها كل شيء، من: ديرم للشفاه، ومقص، ومشط، وحناء وشعشاع وحمرة لفرق الرأس وحلتيت وصبر ومر كأدوية للبطن، وكحل للزينة، وأزرار العادي والطقطق وأنواع الكريمات والدهون للبشرة والفكس خاصة وأبو فاس ومراهم القريمزان والأسود للدمامل ومراهم للعيون وبعض العطورات والاطياب، وقطع قماش، وبعض الاكسسوارات للزين وخواتم ذهب وفضة أصلية وتقليد وحلي نساء وإبر للخياطة ومكرات أو بكرات خيوط أو سلوك، وكركم وبهارات وعينات بسكوت ولبان وعلك وفناجيل وبخور عود وجاوني ومرايا صغيرة يسمونها ( منظرة) وطواقي وشراريب ( جوارب) ودسوس يد أطفال ( قفازات )، ولم أرتب عرضها بحسب تجانسها وتوافقها وتقارب استخدام عيناتها لأنها توضع في زبيل الدلالة هكذا بشكل فوضوي فيما يبدو لنا، لكن الدلالة حتما تعرف مكان كل نوع وكل قطعة، ولا يأخذ وقتاً طويلا لو أرادت إحضاره وعرضه لمن يطلبه. وتتعمد أحيانا إخراج بعض الأصناف أمام النساء حتى لو لم يطلب منها وكأنها تبحث عن طلب الزبونة، ولكنها في الحقيقة تعرض أصنافا أمامهم لينتبهوا ويشتروا، ولا تحرص على حراسة وحماية ومراقبة زبيلها أثناء تواجدها بين النسوة والأطفال في الدار حتى لو صار بعيدا عنها نسبياً، وذلك لتعودهم عليها وتعودها على أمانتهم ولأنها سلع رخيصة، ونحن اليوم نلاحظ ذلك عند الباعة المتجولين حول المساجد حيث يتركون بضاعتهم من العطور والجوارب والطواقي وغيرها ويصلون بسبب الأمان وبسبب آخر هو أنها سلع رخيصة ليست ذات شأن يستوجب حراستها، ولو كانت غالية لقام بحراستها بشدة. والدلالة نتيجة لقائها المتكرر مع كل نساء المجتمع تقريبا ودخولها في بيوت عدة باستدعاء أو دون استدعاء، وكذا زيارة النساء لها في بيتها يوميا، تتميز بأنها ذات مرونة عالية في التعامل تتحلى بأخلاق من الرفق وطول البال وسعة الصدر لبقة في الحديث مجاملة جدا، مقبولة عند النساء وقد ينتظرن قدومها ويتحرينه ويؤكدن عليها العودة في حال خروجها، بل ويكرمنها بتقديم القهوة وحق الضيافة في كل مرة ويأنسن بحديثها وهي كذلك، ربما لأنها تملك أخبارا عامة كثيرة ومعلومات توظفها في مجالها الصحيح لكي تكون مقبولة دون أن تمس خصوصيات الآخرين، كما تتصف بالحلم والأناة والصبر، وقد تعلمت واكتسبت من طبيعة عملها أخلاقيات التجارة كالأمانة وحفظ حقوق الآخرين وأسرار بيوتهم والتحفظ على الحديث عن الأخريات وعدم الخوض في خصوصيات البيوت، أو نقل الحديث غير المستحسن أو محاولة التحريض أو نقل الكلام البذيء أو السب أو الغيبة بل وتعطي مرونة أكثر من الرجال في عمليات البيع والشراء، خاصة وأن النساء في زمان مضى ( بخلاف الوقت الحاضر ) أقل مفاصلة أثناء شراء السلعة. وهذه الأخلاقيات العالية اكتسبتها من منطلق كونها أولا مسلمة، ولأنها تحافظ على رأس مالها وهو ثقة أهل البيوت فيها وقبولهم لها وتقبلهم لمجيئها باستمرار، ولو لم تتحل بصفات طيبة لم تقبل في كل مرة. ولا أعرف أن الدلالة تسجل أو تكتب بقلم ما لها وما عليها من حقوق بينها وبين النساء اللاتي يشترين منها وتبيع لهن، وذلك لأن التعليم فيما مضى لم يكن منتشرا ولا يعرف إلا في كتاتيب تلتحق بها صغيرات السن، أما الكبيرات فقل من يقرأ ويكتب منهن، وإن كان ذلك لا يعني العموم أو العدم، وتعتمد الدلالة في الغالب على ذاكرتها وتصديق الأخريات فيما لها وما عليها كله من مبدأ التعامل بالثقة. ولا تتعامل الدلالة في الغالب الأعم مع أصحاب الدكاكين ولا صلة لها بهم ولا تهتم ببضاعتهم ولا تنافسهم في شيء مشترك، ولا ينافسونها أو يحملون هم منافستها في القرية، وهي تعرف ذلك وهم يعرفون أيضا،ولهذا تخصصت في البيع على النساء كل اللوازم النسائية وغيرها مما يمكن توفيره في بيت الدلالة، ونساء القرية يعتمدن على بضاعة الدلالة ويتبادلن المعلومات حول كل جديد لديها. أما لماذا وجدت مهنة تسمى صاحبتها: بالدلالة، فلأن المجتمع المحافظ في القرية لم تكن من أعرافه أن تأتي النساء إلى الدكان وشراء شيء منه حتى ولو كانت متسترة بالكامل ومعها أحد من أهل بيتها، وحتى لو كان ذلك لا بأس به من الناحية الشرعية، فالحياء يمنعها والمجتمع ينتقد هذا، وأيضا هناك سبب قوي وهو وجود الدكاكين كلها في مجلس القرية الذي لا يغشاه سوى الرجال ولا تقربه النساء بل ولا تمر مع وسطه عابرة للجهة الأخرى إلا في الصلاة مثلا حيث يخلو تماما من الرجال وتغلق الدكاكين، وهذا بالطبع لا ينطبق على البادية الرحل الذين قد يزورون بعائلاتهم نساء ورجالا سوق القرية كيوم الجمعة مثلا فيتبضعون ما يلزمهم ويبيعون ما معهم . لقد صار الامتياز للدلالة في كونها هي المتفردة بمقابلة النساء وإعطائهن فرصة الاطلاع على البضائع في بيتها المفتوح طيلة النهار تدخل فيه النساء بلا استئذان، وزيارتها في كل يوم لأهل البيوت بزبيل أو رداء من القماش السميك يجمع حاجياتها تضعه على رأسها بعد جمع أطرافه وربطها، وفي هذا الرداء أو الزبيل عينات كما ذكرت، وليس كل دلالة تطوف وتتجول على البيوت وتعرض بضاعتها، فبعض الدلالات لا تخرج من بيتها. ولا يتطور أسلوب الدلالة أو يتغير بل يتصف بالثبات على وتيرة واحدة شأنه شأن تجارة أصحاب الدكاكين، قد يبقى أربعين سنة على نظام واحد وصفة لا تتغير ودكانه وبضاعته في مكانها لا يحاول عرضها بشكل مختلف وربما جلسته كما هي قد أحدث حفرة في الأرض بسبب طول البقاء في مكانه، والمهفة في يده هي نفسها حتى يقال فلان: مات رحمه الله. والحقيقة أن ذلك ليس عجزا منهم من الناحية الإدارية والقدرة المالية ولكنهم يميلون إلى الثبات والاقتناع برزق وربح ثابت ولو قل ولا يحبون التغيير ولم يتعودوا عليه، وليست المخاطرة واتخاذ اساليب جديدة ضمن تطلعاتهم، وليس هذا خاصا بأصحاب الدكاكين والدلالات فقط بل حتى أصحاب الحرف والمهن، يبقون في الغالب كما هم في مهنهم سنوات عديدة قل أن يجربوا مقدرتهم في مجال آخر أو مهنة مختلفة. ولا يقلد بقية النسوة الدلالة فيعرضن بضاعة مثلها وينافسنها ويتحولن إلى دلالات ولا يحاولن الاستغناء عنها بالبحث عن مصدر بضاعة خارج القرية، بل تبقى هي دلالة القرية أو دلالتان، لهن الشهرة مدد طويلة، وليس الوضع في السابق مثل اليوم، ما أن يفتح شخص مشروعاً يسترزق منه إلا و ينافسه نصف أهل البلدة. وربما استعين بالدلالة بسبب معرفتها التامة بأفراد كل عائلة وجرأتها وقدرتها على الإقناع في مسألة الخطوبة فتحولت إلى وظيفة اجتماعية تسمى خطابة، فتخطب ابنة عائلة لابن عائلة أخرى أو تعرض رغبتهم في الزواج، وبالطبع لا ينسون صلتها ومكافأتها مالياً.