كثيراً ما يتردد على مسامعنا حينما يكون موضوع النقاش عن أي المجالات أقدر على خدمة الإسلام أن الفن لا يساهم بشيء أبداً بل قد يعتبره البعض أداة هدم وتدمير لقيم هذا الدين السامي، وينسون أن الغرب حينما اجتثوا جذور الحضارة الإسلامية وأنكروا سبق المسلمين في كثير من العلوم عجزوا عن محو آثارهم الفنية التي بقيت شامخة في ربوع أوروبا لتشهد على حضارة لم يسبق لها مثيل، بل إن بيكاسو أحد عباقرة الفن الحديث اعترف بعجز عبقريته أمام عبقرية الفنان المسلم قائلا: كلما وصلت لنقطة جديدة وجدت الفن الإسلامي قد سبقني إليها. وهذا ما شهدته العاصمة لندن في معرض (صنع في مكة) منذ أيام الذي عرض أعمالاً لكل من الفنان المتميز صديق واصل، ونهى الشريف، وناصر السالم. ففي قلب منطقة سلون سكوير الراقية يفاجئ المارة بلوحات مضيئة من النيون وأخرى مكتوبة تحمل لفظ الجلالة وبعض من آيات القرآن الكريم لا يحجبها سوى زجاج صالة عرض كتب عليه بالخط العريض: (صنع في مكة)! لتجعل كل مسلم يشعر بالفخر والحنين وقوة حضور الهوية حين يقف أمام هذه النافذة، وتجعلنا كسعوديين نشعر بفخر أكبر أن من صنعها هو فنان سعودي شاب استطاع مع زملائه وبدعم من صالة عرض سعودية أن يحمل رسالته للخارج. ومن الأعمال المميزة التي سنلقي عليها الضوء في هذا المعرض منحوتة من الرخام الصناعي حملت اسم (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) للفنان والمهندس السعودي ناصر السالم الذي استطاع بهذا العمل أن يترجم فلسفة كونية هامة جداً اختصرتها هذه الآية. حيث تأتي كتابة الآية في العمل بشكل متاهة متداخلة تبدأ في منتصف الجانب الأيسر وتنتهي بمخرج في أعلاه. جدران المتاهة عميقة نسبياً وممراتها متداخلة تذكرنا بالكون من حولنا وأفكارنا المتزاحمة يومياً حين نحاول تفسير كل ما فيه، وصعوبات حياتنا التي تضعنا كل مرة أمام اختبار صعب لنقرر فيه أي منعطف نسلك. إن هذا العمل لا يحاكي تجربة الإنسان العادي فقط بل هو ترجمة للاختبار اليومي الذي يجد الفنان المسلم نفسه فيه، فهو باستمرار يجاهد نفسه لاجتناب الشبهات ويفكر بطرق غير مسبوقة للابتكار وتعويض الجوانب التي قد يحذر من تمثيلها والخوض فيها. لقد استطاع السالم بهذا العمل أن يترجم باختزال جوهر الوجود الإنساني في هذه الحياة فهي اختباره الصعب، وأعطى المشاهد الحلّ في الوقت نفسه وهو التقوى والاحتساب، وبهذا الاختزال تكمن العبقرية. من هنا يمكن القول بأن هذا العمل ينطبق حرفياً على السالم، حيث تمكن بحرصه على هويته أن يصبح في سنوات قليلة مفخرة حقيقية للفنان السعودي حين استطاع أن يصل بهويته للعالمية فبالفعل من يتق الله يجعل له مخرجاً.. -