يوم الأربعاء الماضي كتبت عن المقاهي الثقافية في العواصم العربية، وكيف كان المقهى مكاناً لولادة الكثير من الأعمال الفكرية العظيمة من شعر، وفكر، ومسرح، ورواية، وقصة، ولوحات فنية مبهرة، وكيف كان المقهى منتدى فكرياً تجري فيه الحوارات، والنقاشات التي تثري الوعي، وتعمّق الفهم، وتفتح آفاقاً من المعرفة لمن هو يحمل هم محاصرة التخلف، وهاجس إشاعة التنوير والحداثة في مضامين الحياة الاجتماعية، فمنها تكوّنت كثير من الحركات والتوجهات السياسية، وخرجت المظاهرات المناهضة لحكم وثقافة العسكر بأنظمتها الاستبدادية، والقمعية، وناضل رواد هذه المقاهي من أجل حرية الإنسان، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وحرية التعبير، وما يوفر له الكرامة في العيش والطبابة والعمل، ويحصنه من القهر والخوف على مستقبلاته، وانعكس هذا الوعي والهدف في أعمالهم الفكرية التي أغنت المكتبة العربية، وساهمت في تعميق الثراء الوطني عند الإنسان العربي على امتداد جغرافيا الوطن من المحيط إلى الخليج. ويوم الجمعة كنت أقلب أوراقاً عتيقة عندي، أعادتني إلى زمن جميل ومبهج في السبعينيات حيث كان مقهى العويد بطريق خريص ملتقى لمجموعة من الصحافيين والشعراء والكتاب والمهتمين بالشأن الثقافي، فقد كنا نلتقي هناك: تركي السديري، ومحمد الشعلان، وعبدالله نور- رحمهما الله - وسعد الحميدين، وبعض الأصدقاء من الأنتلجنسيا الفلسطينية، الشاعر أيوب طه، والقاص سالم نحاس، ويحي الدقس - رحمهم الله - وقحطان هلسا، وكان تجمعاً فيه النقاشات الحادة والعميقة، وفيه جمر الشعر وغوايته الإبداعية، وأسجل أنه كان تأسيساً لنا جميعاً مع اختلاف مناهلنا الثقافية، ورؤانا القومية، وانتماءاتنا الفكرية، وكان حضوراً لكل عمل إبداعي يحرّض شهيتنا للمغامرة في الأعمال الخالدة لكثير من عمالقة الفكر. من بين هذه الأوراق العتيقة عثرت على قصيدة جميلة للشاعر أيوب طه، كثيراً ما أخذنا وهو يلقيها إلى السباحة فوق غيوم الوجد، وملامسة المنازل على سحب أسطورية، والتوق إلى الإقامة في الجزر الخرافية. تقول القصيدة المنسية، والحاضرة في الوجدان. "من قبل شهور ولدت قصة حب ثائر في ظلِّ جدار، وعلى مرأى من عصفورين، كانا نغمين على غصن مخمور.. من قبل شهور ولدت قصة حبي في النور، مع أول حرف من.. يا هلا بالشاعر.. أهلاً إيزيس.. صباح الخير أرأيت سميرة يا إيزيس؟ يا شاعر حسبك يا شاعر.. فضحكتُ قليلاً.. والخجل على وجهي ظاهر لأعود أقول وأبرّر موقفي السافر، وحياة عيونك يا إيزيس !.. أخطأت الظن لكن لا تنسي الكلية فالمنهج صعب، والوقت قصير، لعن الله الفحص القادم.. وتضاحكت السمراء، وأومأ لي عابر "إزايّ الحال" يا أهلاً أهلاً بصديقي.. إني شاكر سأراك.. ولكن عفواً بعد قليل ومضيت أقول إني قلق لا أعلم عن أهلي شيئا ولماذا لا يأتيك خطاب؟ أكتب لهم؟ عشرين كتاب جعل الله المانع خيرا وتدق الساعة غيرانة.. ويصيح صديق منحوس أيوب تعال.. أيوب أما تأتي للدرس؟ إني آت.. إيزيس وداعا يا إيزيس مع ألف سلامة ومضت ساعة والشاعر في صدر القاعة يتخيل إيزيس السمراء، وحديثاً منساباً كالعطر، أشذى من أنفاس الزنبق، وشفاها يا ليت الشاعر فيها يوماً ينفخ ناره إيزيس وداعاً يا إيزيس، سأراك ولكن بعد شهور..." نبتت في عيني دمعة، نتوقف عن الذكريات، ونصمت..