لا أحد يختلف على حب الأهل لأبنائهم، ومدى حرصهم على متابعتهم، ولا يوجد شك أن كل أب أو أم لا تكتمل سعادتهما إلاّ وأبناءهما في أفضل المستويات التعليمية والوظيفية والاجتماعية، غير أن بعض أولياء الأمور يتجاهلون حقوق فلذات أكبادهم ويهمّشون حريتهم في اتخاذ مساراتهم وقراراتهم، بل ويُصّرون على تحديد شخصياتهم، من خلال فرض قراراتهم على أبنائهم من دون أن يتركوا لهم حرية اتخاذ القرار بما ينسجم مع قدراتهم ورغباتهم، مع التوضيح لهم بطبيعة الخيارات المتاحة، وما نهاية المسارات التي من الممكن أن تنتهي بهم من خلال تحصين فكرهم بما قد يجهلهم، وبالتالي تكون لديهم القدرة على فرز خياراتهم بشكل أفضل، ويمنحهم قدرة أكبر على العطاء والشعور بالمسؤولية، بعيداً عن اتخاذ مسارات غير مناسبة بحجة "عشان رغبة الوالد". اختلاف الزمن وأكدت "حياة الماجد" - مستشارة تربوية - أن كثيرا من الآباء لا يزالون يُملون على أبنائهم قراراتهم التي يرغبون بها وقد لا تتوافق مع هذا العصر الذي اختلفت متطلباته وتعددت متغيراته عن السابق، فالبعض منهم مازال يبحث لأبنائه عن تخصصات ومهن ذات سمعة اجتماعية من دون النظر إلى إمكاناتهم وميولهم، لهذا لا نُفاجأ عند فشلهم أو عدم احترامهم لمهنتهم التي فُرضت عليهم، مبينةً أن هذا التدخل قد يصل عند بعض الآباء إلى درجة تلغي معها شخصية الابن، مشيرةً إلى أن تلك التدخلات أوجدت فجوة كبيرة بين الطرفين؛ فالآباء يرون أن من واجبهم التدخل وفرض الرأي حتى لا تخرج الأمور من سيطرتهم، والأبناء يشعرون أن ذلك الأسلوب يحدّ من إحساسهم بالنضج والاستقلال، إذ يتلاشى دورهم الطبيعي في رسم وتحديد مسار حياتهم. شاب يدرس في السنة التحضيرية نجح في تقرير مستقبله الدراسي وقالت إن تصحيح أساليب تلك التنشئة الخاطئة يبدأ بتغيير أفكار الآباء القائم على صناعة الأهداف والقرار للأبناء إلى إعطائهم الفرصة لكي يعيشوا حياتهم بطريقتهم الخاصة؛ وذلك بوضع هذا التدخل في إطار صحي تقف حدوده عند بناء الثقة بالنفس لدى أبنائهم ومراقبة تصرفاتهم في مختلف المواقف، فيعملوا على الصواب ويصححون الخطأ، وعند اتخاذ القرارات الصعبة يتم مناقشتها وأخذ رأيهم فيها ومساعدتهم من دون التدخل في وضع القرار، بل إعطاؤهم مفاتيح المسارات، وترك القرار النهائي بين يديهم. وأضافت أن الحل الوحيد والذكي لتعليمهم كيفية صناعة القرارات "فن اتخاذ القرار" يبدأ منذ الصغر، ومن خلال أمور صغيرة مثل كيفية اختيار الملابس، ومن ثم التدرّج في اختيار المدرسة عند الكبر، ومن ثم اختيار الأصدقاء مع المراقبة من قبل الأهل والتوجية بطريقة غير مباشرة. تركي الخليفة تدخل سلبي وأشار "د. تركي الخليفة" - رئيس قسم الاستشارات بمركز التنمية الأسرية بالإحساء - إلى أن كثيرا من الشباب والفتيات يعيشون اليوم في صراع مستمر بين طاعة الوالدين وبرهما واحترامهما، والبحث عن حرية الاختيارات الخاصة والقرارات الشخصية فيما يتعلق في الدراسة والزواج والسفر والعلاقات وغيرها من شؤون الحياة المختلفة. وأرجع أسباب التدخل السلبي في حياة الأبناء سواء كان ذلك بالفرض أو الرفض في موضوعات شتى تتعلق بهم؛ إلى الحرص الكبير والحماية الزائدة، حيث إن بعض الآباء بدافع الحرص والعاطفة غير المنضبطة ينتهجون الوصاية المُطلقة على الأبناء، وربما تم إلغاء تفكيرهم واختياراتهم، موضحاً أن الحذر والخوف السلبي من قبل الآباء ناتج عن سماع الكثير من القصص والمواقف السلبية عن الشباب والفتيات؛ ما يقود إلى الخوف المبالغ فيه وعدم إعطاء الأبناء حرية التفكير والتعبير واتخاذ القرار. عائض الشهراني وقال إن الفهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية حول التعامل مع الرعية من ضمن تلك الأسباب، حيث يعتقد البعض أن هذا التدخل في اختيارات وقرارات الأبناء من باب المسؤولية، ومن عدم الغش للرعية، وهذا الفهم لا يتعارض مع حرية الاختيار فيما لا يعارض النصوص ولا يغضب الله تعالى، وربما يعود ذلك إلى وراثة هذا السلوك بحيث يكون الأب أو الأم قد اعتادا على ذلك في بيئتهم، ووّرثا ذلك فنقلا هذه التجربة إلى الأبناء إلى درجة أن بعض الآباء يُعوّد الأبناء على عدم الاختيار وعلى عدم اتخاذ القرار حتى في شؤونه الخاصة في لعبة أو لباس أو نزهة أو رحلة أو سفر. أشخاص فشلوا في تعليمهم وزواجهم وحياتهم بسبب عدم توافق قدراتهم وإمكاناتهم مع «رغبة الوالد» وأضاف أن بعض الأسباب تتعلق في الأبناء وأهمها ضعف الشخصية وعدم القدرة على اتخاذ القرار، إذ لم يعتد بعض الأبناء التعامل مع القرارات وحل المشكلات ومواجهة الأزمات، فالبعض قد يطلب التدخل لأنه عاجز عن اتخاذ القرار بمفرده لكونه قد عاش ظلاً لوالده أو منفذا لقرارات غيره؛ إما بسبب الفهم الخاطئ لبر واحترام الوالدين، أو ضعف الحوار والتواصل بينهما؛ مما حدا ببعضهم أن يعيش في ضيق وحسرة وندامة في وظيفة أو دراسة أو زواج أو مسكن من أجل مجاملة وعدم مصارحة بعدم الارتياح؛ اعتقاداً منه أن ذلك إرضاء وبراً وإحساناً واحتراماً للوالدين، مبيناً أنه لو كانت العلاقة بين الوالدين والأبناء قائمة على الحوار والتفاهم والتقارب والفضفضة لما تم الإرغام والإقحام والإلزام أو الرفض وعدم القبول. وذكر أن التوتر في العلاقة بين الوالدين والأبناء ينشأ إذا لم يتم تحقيق اختيارات الأبناء سوف يحصل النفور والتباعد بينهما؛ ما يجعل الجو بينهما مُبلدا، كما تصبح لديهم معاناة من الضغوط النفسية، حيث يصاب الأبناء بخيبة أمل وتراجع همة، وضمور عزيمة، وضعف دافعية وإقدام في أمر لا يرغبون فيه؛ ما يشكل ضغطاً نفسياً عليهم. وبيّن أن أهم التأثيرات السلبية المتعلقة بالأداء الدراسي أو الوظيفي عندما لا تُلبى احتياجات الشباب والفتيات ولا يتم تحقيق اختياراتهم وفتح المجال لهم لاتخاذ القرار المناسب لهم، ما يؤثر في دراستهم وأدائهم الوظيفي، مثل تدخلات تولّد لديهم عدم الارتياح من القرار؛ لأنه تم في غيابهم أو أدخلهم في متاهة وأزمة جديدة ومشكلة قائمة، وكذلك هناك آثار جسدية، فقد يصاب الشاب والفتاة بضعف في الجسم من قلّة التغذية السليمة وكثرة التفكير، والضيق من فرض الاختيار عليهما أو رفض قرارهما وتحقيق رغبتهما، إضافة إلى كثرة المشكلات الاجتماعية والأسرية، مثل زواج تم بالإكراه أو بعد السؤال والتحري من شاب اختار الفتاة التي يريدها وتم رفض ذلك، أو حصل الإجبار على الدراسة أو الوظيفة أو السفر أو غير ذلك، ويعيشون هذا الواقع مجبرين أو مرغمين حينها تنقضي متعة الحاضر ولذة المرغوب، ويتلاشى المستقبل الواعد والغد المرتقب، فلا بالحاضر استمتعوا وتفاعلوا، ولا للمستقبل المشرق انتظروا. أحلام مفقودة وأوضح "عائض الشهراني" - مستشار اجتماعي وتربوي - أن بعض الآباء يريدون أن يحققوا أحلامهم المفقودة من خلال أبنائهم، أو يريدونهم نسخة طبق الأصل منهم ليروا فيهم امتداداً لهم على مدى السنين، فالطبيب مثلاً يريد ابنه طبيباً مثله حتى وإن كان ابنه باستطاعته النبوغ في مجال آخر يجد نفسه فيه، ومنهم من يحاول منح أبناءه خبراته أو نتيجة تجاربه من دون ترك المجال لهم للمعرفة والاستنتاج والبحث والتجربة، ويظل كثير منهم أوصياء على أبنائهم حتى بعد نضوجهم وزواجهم؛ وهو ما يوقعهم في مشاكلات، ويمهد الطريق أمامهم لارتكاب المزيد من الأخطاء. وقال إن إعطاء الأبناء حق اتخاذ قراراتهم بأنفسهم يجب أن لا يتم إلاّ بعد تعويدهم وتدريبهم على كيفية صناعة القرار، وذلك منذ مراحل متقدمه من أعمارهم بحيث تكون من أهم الصفات الأساسية لبناء الشخصية الناجحة القوية، مشيراً إلى أن غياب ذلك النهج التربوي أدى إلى وجود جيل يغلب علية التردد في اتخاذ القرار، فضلاً عن عدم الثقة بتلك القرارات في حال اتخاذها، مشدداً على أن اتخاذ القرار نيابة عنهم يُقلّل أيضاً من حماسهم ودافعيتهم، فكما نعلم أن حماس وتفاعل أي إنسان يكون في أعلى مستوى له متى ما كان هو صاحب القرار بل أنه يبذل جهده وطاقاته لكي يحقق ذاته من خلال ذلك النجاح. وأضاف أن أهم الخطوات التي تنمي مهارات الأبناء كي يحددوا مسارهم في سائر أمور حياتهم بثقة واقتناع من جهة أبائهم أولاً ومن جهتهم ثانياً، تبدأ بسرد الآباء أمثلة واقعية لمواقفهم عند اتخاذهم أي قرار كان، لاسيما القرارات الصعبة التي واجهتهم بحياتهم وكيف كانت مواجهة تلك القرارات بشجاعة وترديدها بأسلوب بعيد عن أسلوب المحاضرات والوعظ والإرشاد، إلى جانب فتح أمامهم المجال في مشاركة الأسرة تجاه اتخاذ القرارات مع تدريبهم على رصد ومناقشة إيجابيات وسلبيات كل قرار وإيجاد بدائل أو حلول مناسبة في حال عدم الاقتناع بأي منها، اضافه إلى عدم أعطائهم حلولاً جاهزة، بل يتم تزويدهم بالمعلومات والتوجيهات التي يتخذون بها القرارات، وكذلك تعليمهم أن الأخطاء واردة، وما يُهم هو التعلم من الخطأ الذي وقعوا فيه.