قبل فترة طويلة كتبت مقالا بعنوان: (ماذا يحدث لبريدك الإلكتروني بعد وفاتك؟) تساءلت عن مصير حساباتنا الإلكترونية، وملفاتنا الرقمية، ورموزنا السرية، ومراسلاتنا العالقة في فضاء الانترنت بعد وفاتنا!؟ وحينها استعرضت البروتوكولات الخاصة ببريد الياهو (الذي لا يسمح لأحد بالدخول لحسابك بعد وفاتك طالما وافقت أنت على هذا الشرط) والهوتميل (الذي يلغي نفسه تلقائيا في حال لم تستعمله خلال عام كامل) والجيميل (الذي يظل مفتوحا ولا يغلق أبدا حسب شركة جوجل) والفيسبوك (الذي يتخذ موقفا وسطا بين تشدد الياهو وتساهل الجيميل ويجمد صفحتك ويحولها الى مقبرة إليكترونية دائمة)! وبعد نشر المقال نبهني أحد الأصدقاء الى أن شركة ميكروسوفت سبق وأصدرت برنامجاً يدعى ذكريات حياتي أو (MyLifeBite) يمكنه تسجيل كافة الصور والرسائل والأفكار والملاحظات الشخصية - بل وحتى محادثاتك التلفونية - في أرشيف إلكتروني ضخم.. وهذه العمليات تتم بلا تدخل منك - طالما نفذتها بواسطة الكمبيوتر - ويجري نسخها تلقائياً على إرشيف مشفر او موقع مفتوح على الانترنت.. حسب رغبتك!! - أما السؤال الأكبر والأشمل (ويسبق الانترنت وتوابعها) فهو: ماذا يحدث لذكرياتنا وخبراتنا وتجاربنا المخزنة في رؤوسنا بعد وفاتنا؟ فاليوم أصبح مؤكدا أن أفكارنا وذكرياتنا تتشكل من نبضات كهربائية وسيالات عصبية يصعب الجزم باختفائها نهائياً (حسب قانون حفظ الطاقة الذي يفيد بأن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث ولكن تتحول من شكل لآخر).. وأبرز دليل على بقاء الأفكار - بعد وفاة صاحبها - هو قدرة الأطباء على رسم خرائط ورسوم بيانية لما يجري في الدماغ يمكن من الناحية النظرية عكسها وإعادة ترجمتها كنسخة كربونية للأفكار نفسها. وكانت صحيفة الأوبزيرفر اللندنية قد نشرت قبل فترة تقريرا يفيد بأن تقنيات الالتقاط ستتطور في عام 2050 إلى درجة قدرتها على التقاط واسترجاع ذكريات البشر الموجودة في الأثير (بالصوت والصورة) ثم البحث في أرشيفها (بدلالة اليوم والشهر والسنة). وهذا يعني أن وفاتنا مستقبلاً ستحدث - كما تحدث منذ الأزل - بطريقة طبيعية باستثناء بقاء أفكارنا وذكرياتنا كنبضات إلكترونية يمكن التقاطها في أي وقت نشاء (... أو لنقل: في أي وقت يشاء أحفاد أحفادنا)!! على أي حال؛ طالما وصلنا الى عام 2050 أتصور تقدمنا لأكثر من ذلك ونجاحنا في استعادة - ليس فقط ذكرياتنا - بل وحتى "الكلام" الذي نطقنا به ذات يوم!! فنحن نعرف أن الكلام يصدر حين نحدث (بواسطة اللسان وحبال الحنجرة) تموجات صوتية تدخل الى أذن المستمع. ولكن هذه الموجات تسبب ايضا تموجات في الأثير تظل تنعكس بلا نهاية حتى تعم الفضاء بأكمله.. وهذا يعني أن الفضاء حافل بالأصوات التاريخية القديمة التي تنتظر من يستطيع التقاطها وإعادتها إلى صورتها الأولى! وكانت شركة بيل للهاتف قد أجرت تجارب مدهشة بهذا الخصوص واكتشفت في النهاية أن العقبة الرئيسية تكمن فقط في عدم قدرتنا على تمييز واستخلاص الصوت المطلوب من بين ملايين الأصوات التاريخية المتداخلة.. أما عدا ذلك فنحن نملك في عصرنا الحاضر جهاز الراديو الذي يلتقط موجة الأثير المطلوبة ويستخرج الصوت الذي تحمله من بين آلاف الموجات المشابهة.. ولكن الفرق بين جهاز الراديو والجهاز المأمول تحقيقه هو أن الأول يمكنه التقاط الموجة الأثيرية المطلوبة في وقت بثها (على الهواء مباشرة) بينما المطلوب من جهازنا العتيد القدرة على التقاط الموجات الأثيرية بعد بثها بمدة طوووويلة)!