بعض العناوين والتصورات حول مسارات التقدم تبدو مسلّمات، ويتم التعامل بلا تحديد الأفق الذي تعمل فيه تلك التصورات، ودون مزيد من النقاش حول عناصر التغيير وعوامل التنمية وشروط التقدم ثمة من يستند إلى مقولات قد لا تحتمل الاختلاف حولها، إلا أنها قد تحمل قدراً من التبسيط في تصوراتها المبتورة عن سياقاتها. من يشير إلى أن أمم الأرض الناهضة لم تحقق تقدماً يذكر، ولم يكن لها أن تحقق هذا الحضور الكبير في عالم اليوم قوة ومكانة وتأثيراً.. إلا عندما توجهت لمسائل وقضايا تتركز حول قضايا تطوير التكنولوجيا والإنتاج العلمي وبناء المجتمع المعرفي.. فهذا لا غبار عليه، بل هو الحقيقة الساطعة. إلا أن ما يثير الاستغراب هذا التوهم الكبير بإمكانية صناعة عالم متقدم مادياً وتقنياً دون الولوج أيضاً لعالم الأفكار الكبرى التي شكلت الجنين الذي نما في أحشائه العلم وتبلور وازدهر وأعطى. الذين يقرؤون في سجل التنمية في جزر معزولة وصغيرة وتبحث عن مؤشرات تقدم في جانب وحيد، وهي تتجاوز أطر التفكير بواقع اجتماعي مغرق في قضاياه، وقلما وضع فكرة التغيير في سياق تتحرك فيه عناصر التقدم ضمن مشروع.. سيكتشفون أن المشروعات المعزولة عن السياق العام في المجتمع إذا حققت تقدماً في مرحلة فهي يمكن أن تتعثر في مراحل أخرى. أما السبب فيعود للحوامل الكبرى للتنمية التي لا تقودها فقط خطط جزئية وميزانيات.. ولكن يقودها خيال إبداعي في بيئة لديها قابلية للحفاظ على المنجز وتطويره. عالم الأفكار وإثارة الأسئلة الشاقة على المستوى الثقافي والاجتماعي، ليست سوى ملامح إخفاق في تصور البعض، وهي ضرب من الانشغال بما لا يفيد.. والسجالات الثقافية ضرب من التهافت على مائدة بائعي الكلام.. ولا حل سوى التوجه لبناء عقول علمية متخصصة، تنشغل بما هو أجدى وأنفع.. لنشارك هذا العالم حفلة التنمية، ونحقق مجتمع المعرفة ونعزز حضور العلم ونتائجه وحصاده. ومثل هذا الطرح يُستقبل بالاعجاب والتقدير، وهو صحيح ومصيب، ولايمكن أن يختلف عليه العقلاء والعارفون. فلا تقدم ولا تنمية ولا حضور ولا تحقيق إنجاز طالما كنا متخلفين علمياً وقتنياً، ومتراجعين في قدرتنا على إنتاج العلم وتوظيف التقنية لصالح مشروع كبير يتجاوز في مفاعيله ثقافة تسيطر على شارع غارق حتى أذنيه في سجالات لا تسمن ولا تغني من جوع. إلا أن ما يبدو صحيحاً للوهلة الأولى، قد يتجاوز مفاهيم لابد من الاقتراب منها عند معالجة موضوع كهذا. ليعاد طرح السؤال على النحو التالي: كيف يمكن تحقيق تقدم بمردود تنموي على رافعة المعرفة دون قراءة ملامح الصورة الكلية في مجتمع ما زال يتساءل ما هو العلم؟ كيف يمكن لنا أن نلج في مشروع تقدم معرفي دون أن يكون ثمة تأسيس لعقل جمعي يؤمن بحرية تداول الأفكار ومناقشتها وتوليدها؟ والأهم من هذا، كيف يمكن لنا أن نصمم بيئة علمية بمعزل عن وعي يساهم في صناعة مجتمع بأكمله؟ هذا الوعي الذي لا يرى العلم من ثقب التقنية فقط، ولكن من خلال قدرة القاعدة الاجتماعية على إنتاج عقل قادر على استعادة السؤال بلا وجل.. عقل يؤمن بمشروع تحول يطال الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي.. وليس حالة انبهار بواجهات بناء باذخة الكلفة تعطي أحياناً شعوراً زائفاً بالزهو. الحديث عن أهمية مجتمع العلم والمعرفة وضرورة الانصراف له وتكوين توجه اجتماعي نحوه، لا يغني عن سؤال التقدم، ولا عن موقع المشروع المعرفي في صلب المشروع الوطني، الذي تتسع مساحته لتطال قضايا كبرى تتعلق بالإنسان تكويناً وهوية واختياراً وقدرة على صناعة عالمه أو المشاركة في صناعته على النحو الذي يريده أو يأمله أو يطمح إليه. معالجة قضايا التقدم بالإلحاح على الإنجاز في المجال المعرفي بمعزل عن المشهد الوطني العام وقضاياه تتجاوز السؤال العقدة: هل تأتي عربة المعرفة وتطبيقاتها العلمية قبل حصان التقدم الاجتماعي أم المعمول عليه أن يجرّ هذا الحصان العربة بما فيها؟ هل يمكن تجزئة المعرفة إلى عناوين يمكن الاقتراب منها ومباشرتها، وأخرى يجب محاذرتها وتأجيلها؟ كيف تبدو عملية التنمية وخططها ومشروعاتها، دون وعي اجتماعي يضعها أولوية في سياق مرحلة في مجتمع لا زال عاجزاً عن التخلص من عثرات بدائية ما زالت تشكل فجوات في مسار التقدم والتنمية والنهوض والتغيير الإيجابي؟! بعض العناوين والتصورات حول مسارات التقدم تبدو مسلّمات، ويتم التعامل بلا تحديد الأفق الذي تعمل فيه تلك التصورات، ودون مزيد من النقاش حول عناصر التغيير وعوامل التنمية وشروط التقدم. ولذا يطل السؤال: أليست الوسائل والأدوات ثمرة منجز لا يقوى على العبور دون قاعدة من الأفكار المتماسكة. وإذا افترضنا أننا استطعنا أن نقدم حضوراً في سجل التقدم المعرفي من خلال البحوث والمؤتمرات والندوات العلمية وأوراق العمل وهي كثيرة وحافلة، فهل هذا ضمانة لدخول العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين بثقة المنجز.. دون الاهتمام بمسارات أخرى هي أشد وطأة في تقرير شكل ونوع التقدم المنشود، والتي تشكل ضمانة التوظيف ووسائل التنمية واستمرار عوائدها وترسيخ مفاهيمها وإدماجها في كيان أكبر لا أن تظل تلك الانجازات معزولة ومحدودة التأثير. إن ما يتهمه البعض بأنه سجال ثقافي غير منتج قد يكون أقرب للترف الفكري في بعض الأحيان، ولكن عندما يتصدى لقضايا تفرض حضورها في أي مشروع وطني، فهو يمكن أن يحقق تأثيراً في عقل المجتمع، بل ويعول عليه أن يدعم التوجه نحو بناء مجتمع معرفي.. ما يعني أهمية الأدوات الثقافية التي تجعل مثل هذا التوجه حاضراً في العقل الجمعي. يجب ألا نغفل أن بناء القاعدة العلمية والمجتمع المعرفي إنساناً وتجهيزاً ورؤية هو مهمة أساسية وضرورية، إلا أن المبالغة في تقدير إمكانية تحقيق إنجازات كبرى في هذا السياق دون النظر لمسارات أخرى تنتظر أن تحقق فيها إنجازاً مشابهاً أو على الأقل تتماهى مع المشروع المعرفي.. ربما كان يشكل خللاً لايمكن تجاوزه بسهولة وربما عطل المسار الأول. التحولات الشديدة التغير حولنا، والتطورات التي طالت سلّم القيم الاجتماعية، المواطنة والانتماء، المرأة وقضايا المجتمع، إعادة صياغة أسئلة قلقة في عمر مجتمعات بدأت تطل على عالم لا مكان فيه للتوقف، المشروع الثقافي والتباساته، توزيع الثروة والكفاية الاقتصادية، حرية التعبير وقضاياه، التفكير الديني ودوره في صياغة المجتمع، النخب وعلاقاتها بصناعة القرار.. كل هذه قضايا ليست كلاماً عابراً أو توهماً ثقافياً أو حشواً مصطنعاً. هل يمكن صياغة مشروع تقدم دون مجتمع قادر على حسم خياراته تجاه تلك القضايا وسواها؟ هل يمكن أن نتقدم خطوة عبر مواعظ العمل والإنتاج والتوجه نحو مجتمع المعرفة دون أن يكون بمقدورنا أن نقدم أيضاً مشروعاً يطال مسارات وأولويات وقضايا هي شغل الناس الشاغل؟