أدعو القائمين على الحرمين الشريفين أن يستلهموا رؤية خادم الحرمين الشريفين، ويقتفوا منهجه في التخطيط لتوسعة الحرمين، وألا تقتصر الغاية من هذه التوسعات على استيعاب أعداد أكبر من المصلين، وإنما ينبغي أن تراعي مشاريع التوسعات المستقبلية عدة جوانب تتماشى مع مكانة الحرمين الشريفين في الوقت الذي تعتبر فيه قضية نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي قضية المسلمين الأولى، ومحور اهتمامهم ومدار مشاعرهم، وقد أثارت الأفعال المشينة التي لا تسوء إلا فاعليها مشاعر غضب وثورة في أوساط المسلمين غيرةً على عرض رسول الله أن يُنال، وعلى مكانته العالية أن يتعرض لها أحد بأذى، ومع إيمان كل مسلم أن الله عز وجل قد تكفل بالدفاع عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنه سبحانه قضى بهلاك وخسارة مبغضيه وشانئيه، وأنه سبحانه كفى رسوله في حياته وإلى يوم الدين المستهزئين، إلا أن ثورة المسلمين ليست إلا غضباً مما وصلت إليه الوقاحة والاستهتار بمقدساتهم من قبل دول تزعم أن حرية الرأي فيها تقيد سلطتها في إيقاف ومحاسبة من أساء إلى مقدسات المسلمين، في حين أن تلك الحرية لا تكون منهم على بال حين يكون التعدي والانتهاك لأمور تافهة لا ترقى لدرجة الاحترام فضلاً عن التقديس، مثل محرقة اليهود وجواز التشكيك فيها أو حتى الصور العارية لأمير بريطاني وزوجته. وفي خضم هذا الحدث، تنادت أصوات عاقلة غيورة على الإسلام وأهله، وأوضحت الوسائل الشرعية الفاعلة التي يمكن من خلالها إظهار نصرة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحذرت من الغوغائية والانجرار للفتنة والعنف والتعدي على الأبرياء ممن لا يد لهم في مثل هذه الجرائم، وأن مثل هذه التصرفات غير المحسوبة ولا المشروعة من شأنها إلحاق الضرر والأذى بالمسلمين في كل مكان، وتشويه صورة الإسلام الحقيقي الذي لا تكمن قوته في فوضى الشوارع، ولا سفك الدماء المعصومة وإتلاف الممتلكات والإفساد في الأرض. وقد كشفت مثل هذه الأحداث عن الصحيح من السقيم، والمصلح من المفسد، ومن هداه الله ممن أضله وأغواه. فكان ممن زعم أنه ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من اجترأ على مقام النبوة الشريف، وانتهك ما أجمع عليه المسلمون بشتى مذاهبهم من تحريم تعريض مقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للانتقاص عبر تمثيل شخصه الكريم عليه السلام في أفلام ٍ أو صور، وهو ما أُعلن عنه في إيران مؤخراً من عزمها على إنتاج فيلم ٍعن الرسول صلى الله عليه وسلم يتم فيه تمثيل شخصه الكريم، وشخصيات صحابته رضوان الله عليهم، وما من شك أن هذا التعدي على حرمة الرسول وصحابته لن يقف عند حد تمثيل أشخاصهم بل سيتجاوزه إلى توجيه هذا الفيلم وكتابته مادته من خلال الرؤية الفاسدة للمذهب الضال في إيران. ولا أزعم هنا أن هذا الفعل الشنيع المنكر هو أبشع وأضلّ ما فعلته وتفعله حكومة الولي الفقيه من ضلالات، فإن عقائدهم المعلنة والباطنية التي يعتقدونها هي أضل بكثير من هذا الفعل، وأبعد عن دين الإسلام وأشد مجافاة له. إلا أن مما يستوقف المسلم العاقل عند إعلانهم عن هذا الفيلم زعمهم أنه لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وإبراز سيرته العطرة !!. وفي نفس هذا الوقت فإن من وفقهم الله وهداهم إلى الطريق القويم يؤمنون تماماً بأن نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام إنما تكمن في الإيمان بما جاء به من حق، واتباع هديه ونهجه القويم، والتمسك بسنته، والدعوة إلى الله على وفق ذلك، ونشر السنة الصحيحة ومحاربة البدعة والضلالة أياً كان مصدرها . ولئن كانت نصرة رسول الله عليه الصلاة والسلام حقاً هي ذلك فإن ما وفق الله إليه خادم الحرمين الشريفين" أيده الله وحفظه " من الأمر بتوسعة المسجد النبوي الشريف، توسعةً تاريخية جليلة المعنى كبيرة المبنى، فإن ذلك من أعظم أوجه النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والعناية والرعاية بقاصدي وزوار مسجده الشريف الذي أذِن عليه السلام بأن تُشدّ إليه الرحال، وحرّم ما حوله كما حرّم إبراهيم ما حول المسجد الحرام في مكة، ودعا الله أن يبارك في مُدّ المدينة وصاعها. وذلك خلال الأيام الماضية، حين حط ّ فيها الركبُ الميمون لخادم الحرمين الشريفين" حفظه الله وأمده بعافيته " قادماً من خارج المملكة ليستفتح قدومه إلى وطنه بتدشين مشروع من أضخم المشاريع الإسلامية على مر الأيام، ويضع " حفظه الله " حجر الأساس لمشروع توسعة المسجد النبوي الشريف التي أمر بها " حفظه الله " مؤخرا . وإذا كانت هذه التوسعة امتداداً للرعاية العظيمة والعناية غير المسبوقة التي أولاها قادةُ هذه البلاد منذ عهد المؤسس إلى من جاء بعده من أولاده الملوك " رحمهم الله جميعا " إلا أن المرحلة الحالية التي بدأ العمل بها تعتبر من أضخم التوسعات التي شهدها المسجد النبوي الشريف، حتى إنها لم تكن فقط استجابة للاحتياج الحالي، بل كانت استشرافاً للمستقبل أيضاً بما يوازي تزايد أعداد زوار المسجد النبوي لعشرات السنين القادمة. ولئن كان الله عز وجل قد أوضح في كتابه الكريم أنه لا يستوي من قام بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحجاج وهو كافر بالله، بمن آمن بالله واليوم الآخر، فإن في هذا دلالةً أكيدةً على عظيم أجر من وفقه الله فجمع بين هذين الأجرين العظيمين، والعبادتين الجليلتين (الإيمان بالله واليوم الآخر - وعمارة المسجد الحرام وسقاية الحجاج)، ويدخل في ذلك عمارة المسجد النبوي الشريف، إذ كلاهما حرم وتشدّ إليه الرحال ومن أقدس البقاع على وجه الأرض . إن عناية ورعاية خادم الحرمين الشريفين " أيده الله " بالحرمين الشريفين لم تقتصر على عمارتهما وخدمة قاصديهما فقط، بل انتقل " أيده الله " إلى أبعد من ذلك مما يجسد المكانة التي ينبغي أن تكون عليها مكةوالمدينة وحرماهما الشريفان في نفوس المسلمين قاطبة، وذلك من خلال إحياء هذه المعاني في نفوس المسلمين والانطلاق منها لجمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، وإصلاح ذات بينهم، ودعوة الفرقاء والمتنازعين منهم إلى حياض مكة وحرمها وجوار الكعبة للإصلاح بينهم، كما فعل " أيده الله " ذلك مراراً كان آخرها لقاء القمة الإسلامية في رمضان الماضي. من هذا المنطلق أدعو القائمين على الحرمين الشريفين أن يستلهموا رؤية خادم الحرمين الشريفين، ويقتفوا منهجه في التخطيط لتوسعة الحرمين، وألا تقتصر الغاية من هذه التوسعات على استيعاب أعداد أكبر من المصلين، وإنما ينبغي أن تراعي مشاريع التوسعات المستقبلية عدة جوانب تتماشى مع مكانة الحرمين الشريفين في نفوس المسلمين، ودورهما في قيادة العالم الإسلامي، وعظيم قدسيتهما، وشرف تاريخهما، ومن ذلك على وجه الأخص ما يلي : أولاً : ينبغي أن تُستثمر هذه المكانة العظيمة للحرمين الشريفين وما أنعم الله به على هذه البلاد من شرف احتضانهما وخدمتهما بشكل أعمق وأكثر من التركيز على تهيئتهما للصلاة والحج والزيارة، وأن يُخطط لهما ليكونا مركز قيادة دينية وعلمية وحضارية وثقافية تُشع منارتها على العالم أجمع، وأن يتم تحويلهما إلى محضن استقطاب لقادة وعلماء المسلمين ودعاتهم ومفكريهم، فيكون فيها مركز مؤتمرات إسلامي عالمي، وجامعة ٌ كبرى مركزها في مكة وفرعها في المدينة تنافس كبرى جامعات العالم كله وليس العالم الإسلامي فقط . بحيث يصبح هذا المركز والجامعة مركز ثقل ومجمع التقاء، ومحل اعتراف دولي . ثانياً : يجب العناية أيضاً بنشر دروس وفتاوى علماء الحرمين الشريفين والمدرسين في المسجد الحرام والمسجد النبوي عبر الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية وترجمة هذه الدروس والفتاوى لعدة لغات، وتوزيعها على المسلمين داخل الحرمين وخارج المملكة في المراكز الإسلامية في العالم، وأن تتحول قناة القرآن الكريم وقناة السنة النبوية التي تم تأسيسهما مؤخراً إلى قناة مكةالمكرمة وقناة المدينةالمنورة، وأن يتم تفعيلهما بنقل أنشطة الحرمين من دروس وفتاوى وفعاليات متصلة بالحرم، وألا يقتصر البث فيهما كما هو الآن على بث قراءة القرآن والحديث النبوي . ثالثاً : كذلك ينبغي استغلال قدوم المسلمين من كل فج عميق للحج والزيارة في نشر العقيدة الإسلامية الصحيحة وصورة الإسلام الحقيقي على الحجاج والمعتمرين والزوار، وأن تعود الدولة من خلال الحرمين الشريفين إلى مركزها القيادي الدعوي في العالم، فإنه إن كان غيرنا من الدول يبذلون الميزانيات والجهود الضخمة لتتبع المسلمين في الأماكن النائية من العالم لنشر فكرهم ومذاهبهم التي قد يكون بعضها مناهج كفر وضلال، كما هو النشاط الملحوظ لإيران في نشر مذهب التشيع السياسي وفق نظرية ولاية الفقيه، ليتحقق لهم بذلك بسط القيادة والريادة، واستقطاب الولاء من المسلمين، فإن الله أنعم علينا بنعمة لا يسعنا إلا شكرها باستغلالها في طاعة الله، هذه النعمة هي أن الله ساق إلينا المسلمين يأتون إلى بلدنا ويوفرون علينا الكثير من المال والجهد في البحث عنهم، فكان الأولى بنا استثمار هذه النعمة العظيمة لا بحثاً عن وجاهة ولا صدارة ولا زعامة، فإن هذا كان من عمل كفار قريش الذين اتخذوا المسجد الحرام سبيلاً للسيادة على العرب والزعامة فيهم، وإنما هو طاعة لله عز وجل، وامتثال لأمره وتبليغ لدينه الحق الذي هدانا إليه. رابعاً : وفي نفس الإطار كم أرجو لو أن القائمين على الحرمين الشريفين وضعوا ضمن مخططات التوسعة توفير متحفين للحرمين واحدٍ خاص ٍ بالمسجد الحرام، والآخر بالمسجد النبوي، ويكون كل متحف بجوار المسجد الذي يخصه، داخل مشروع التوسعة، وأن يكون في كل متحف منهما كل ما يتعلق بالحرمين من قطع أثرية مما كان مستعملاً فيهما، كالمنبر القديم ومقام إبراهيم السابق ونحو ذلك من قطع عظيمة القيمة والمعنى، وكذلك الصور القديمة للحرمين والمراحل التي مرا بها في العمارة وكل ما يتعلق بتاريخهما، وأن يكون ذلك في متناول يد الحاج والمعتمر والزائر بحيث تتاح لهم زيارتهما دون عناء ولا حاجة للذهاب بعيداً عن مكان الحرم أو المسجد. خامساً : مما يبهر كل من زار مكةوالمدينة مستوى الجهود الضخمة المتواصلة التي تكلف الكثير من الأموال في نظافة وصيانة الحرمين الشريفين على مدار الساعة، إلا أن مما يندى له الجبين ويحز في الخاطر، ما نراه من المستوى المتدني جداً لبعض المسلمين من حجاج ومعتمرين وزوار وعدم مبالاتهم بالمحافظة على نظافة الحرم واحترام قدسيته، بل إن ما يحدث من بعضهم من ممارسات لاحضارية، ولاإيمانية في إلقاء القاذورات وبقايا الأطعمة وتوسيخ ساحات الحرم، يعتبر منكراً شرعياً يستحق الإنكار والتأديب والتعزير، وإن حرص المملكة حماها الله على عدم أذية المسلمين والاحتفاء بهم ومنع أي إجراء يمكن أن يتسبب في مضايقتهم لا ينبغي أن يقف حائلاً دون نشر الوعي بينهم وتنبيههم عبر كل المنافذ التي يأتون منها وفي ساحات الحرم بعدم شرعية ولانظامية مثل هذه التصرفات، ثم تأديب من خالف منهم عن طريق فرض غرامات مالية ٍ على كل من تسبب في تقذير المكان أو رمي المخلفات، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ومن لم يأخذ من نفسه الأدب ويراعي حرمة الحرم كان مستحقاً لتأديبه حفظاً لحرمة الحرمين، ومنعاً لأذية المسلمين فيهما. سادساً : ذهب بي التأمل بعيداً وأنا أشاهد خادم الحرمين " أيده الله " وبرفقته ولي عهده الأمين "حفظه الله " وهما يقفان أمام الحجرة النبوية للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده على صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، في زيارة على وفق ما شرع الله عز وجل وأمر به رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وما لهذا المشهد العظيم من دلالات لا أظنها تخفى على مسلم صادق ناصح، إذ جعل الله ولاية هذه الأماكن المقدسة تحت يد حكام يؤمنون بالله ورسوله، ويحكّمون شريعة الله على وفق هدي السلف الصالح من أهل السنة والجماعة، وتذكرتُ كيف أن هذه الأماكن المقدسة تعرضت في القديم والحديث، وما زالت تحيط بها أطماع أعداء الإسلام والسنة من أصحاب المذاهب الباطلة والملل المنحرفة الضالة، وتذكرتُ لو أن مثل هذه الأماكن المقدسة لم تكن تحت ولاية هذه الدولة الإسلامية السنية القائمة بشرع الله، ماذا كان سيحدث فيها من المنكرات والآثام والفسوق والعصيان والشرك بالله عز وجل؟! فالحمد لله العظيم حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأسأله سبحانه بمنه ولطفه وكرمه أن يديم هذه النعمة على بلاد الحرمين الشريفين، وأن يجعل ولايتنا فيمن خافه واتقاه واتبع رضاه آمين. هذه مجموعة خواطر أثارها مشروع التوسعة الضخمة التاريخية التي أعان الله عليها خادم الحرمين الشريفين، ووفقه إليها.. وقبل الختام لا يفوتني التنويه بأنه في عهده الميمون " أيده الله " تم التوجيه باستمرار فتح المسجد النبوي الشريف للزوار طيلة اليوم بدلاً من إقفاله بعد صلاة العشاء منذ سنوات طويلة، وهذه الخطوة كان وما زال لها أطيب الأثر في نفوس زائري المسجد النبوي. جزى الله خادم الحرمين الشريفين أحسن الجزاء، وجعل ما يبذله في خدمة الحرمين الشريفين في ميزان حسناته ودفع الله بذلك عن هذه البلاد كل بلاءٍ وفتنة. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه. *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً