سأكون صريحا معكم.. في بداية حياتي المهنية كنت أكتب كثيرا عن الاعجاز العلمي في القرآن والسنة قبل أن أتوقف تماما منذ ست سنوات.. والأسباب كثيرة - ويصعب تفصيلها - ولكن من أهمها أن كتاب الله غير معني بما يثبت أو يُنقض في أي مجال علمي يتولاه البشر.. كما أنه يتضمن آيات وأمثلة ونصوصا كثيرة بحيث يمكن - لمن يريد - إثبات ما يريد من خلال مبدأ الانتقاء والاستثناء وربط النتيجة بأقرب حقيقة علمية متوفرة (خصوصا أن النصوص حمالة أوجه كما قال علي بن أبي طالب).. أضف لهذا أن أي كتاب يتجاوز مستوى معينا من الضخامة والسعة يستدعي تلقائيا وجود نمط رياضي معين يمكن استغلاله لفبركة أي ادعاء يوافق ميول أصحابه - وهي التجربة التي ثبت صحتها حتى في روايات أدبية ضخمة مثل البؤساء والحرب والسلام وألف ليلة وليلة!! أما السبب الثاني - والذي من أجله كتبت هذا المقال - فهو أن نفس الفكرة أيضا موجودة ومشتركة بين جميع الديانات (من البوذية والهندوسية في الشرق، إلى الكاثوليكية واليهودية الأرثوذكسية في الغرب). ففي أمريكا كمثال يؤمن المسيحيون المحافظون بوجود ما يسمى بشفرات الانجيل es.. والمصدقون بوجود هذه الشفرات يؤمنون بأن الله وضعها كي يكتشفها المؤمنون في الوقت المناسب. وبفضلها يستطيعون التنبؤ بالاحداث العظيمة والمآسي الرهيبة وما سيحدث في آخر الزمان.. وهناك طرق كثيرة للكشف عن هذه الشفرات أشهرها البحث عن نمط متكرر من الأحرف - أو الكلمات - ثم جمعها وتفسيرها.. فإن أرادوا مثلا البحث عن نبوءة تخص تفجيرات 11 سبتمبر يبحثون عن تاسع كلمة في الفصل المناسب (حيث سبتمبر الشهر التاسع) ثم يجمعونها مع ثاني كلمة بعدها (حتى يكتمل العدد أحد عشر) وبالتالي يحصلون على النبوءة المفترضة!! كما يعتمد اليهود أيضا على طرق مشابهة لتحليل التوراة والتلمود لاكتشاف نبوءاتهم الخاصة.. فعلماء الرياضيات في جامعة وايزمان مثلا حللوا الأنماط المتكررة في التوراة فاكتشفوا - على حد زعمهم - تطابقها مع ولادات ووفيات الشخصيات العظيمة في التاريخ اليهودي. وقدموا دليلا على ذلك تاريخ (ولادة ووفاة) الرئيس السابق وايت وايزمان ورئيس وزراء اسرائيل المغتال اسحاق رابين (حسب ما جاء في موسوعة رجال إسرائيل العظماء - أو:The encyclopedia of great men in Israel)!! أضف لهذا هناك طرق رياضية وعددية كثيرة - يصعب شرحها - للبحث عن أنماط متكررة أو مميزة في الكتب المقدسة (أفقية أو عامودية أو رأسية أو عكسية.. المهم أن تخرج بما يوافق الهوى). وفي أستراليا وكندا وبريطانيا (وبنسبة أقل من أمريكا) توجد برامج تلفزيونية تستضيف في كل حلقة "خبراء" في فك شيفرة الكتاب المقدس يتحدثون عن آخر اكتشافاتهم. وهناك قس يدعى مايكل دروسنن - ألف عن هذا الموضوع - يدعي أن الإنجيل هو الكتاب الديني الوحيد الذي يتضمن مثل هذه الأنماط (ويتجاهل أنه يلجأ شخصيا لتحليل التوراة والتلمود للبحث عما يفتقده في الإنجيل). أما القس الأمريكي جيمي سواجارت (الذي دخل مع أحمد ديدات في مناظرة شهيرة) فكان أول من فتح برنامجه لعامة الناس للحديث عن آرائهم واكتشافاتهم بهذا الخصوص. وأذكر أنه قال - في إحدى الحلقات - ان عودة المسيح في آخر الزمان وهدايته للعالم تم التنبؤ بها ب 39 طريقة مختلفة، وأن عظمة أمريكا وحب الله للأمريكان اكتشفت ب 17 طريقة، وان ظهور إسرائيل وتجمع اليهود في فلسطين اكتشفت ب 13 طريقة..! كل هذا يؤكد أن الفكرة برمتها أقرب للفلكلور الديني من الاستقراء العلمي، ومن العشوائية الرياضية إلى الاستنتاجات العلمية (وهذا بالضبط ما نود تنزيه القرآن عنه). وإن كنتم قريبين من الانترنت ابحثوا في موقع الجريدة عن مقال سابق بعنوان: (الكذب على القرآن) يفضح حقيقة ما يسمى بالإعجاز العددي حيث الانتقائية والتغافل في أوضح صورها!