لم يحظَ اليمن من العالم ككل بالاهتمام كما حظي سواه من دول الثورات العربية؛ دول مايسمى ب"الربيع العربي"، لا من ناحية التغطية الإعلامية الخاصة بالحدث كثورة سلمية تماماً تطالب بالعيش الكريم في خضم تنامي الاستبداد السياسي والفساد المالي المستظل بظلم النظام الشمولي البائد الذي امتلك الثروات وأهلك حرث ونسل المواطنين، ولا من جهة الاهتمام بالإنسان المذبوح على أسنة الفقر والبطالة والتخلف والجهل والتطرف، بل لم يمر عليه إلا مروراً... فقط ببعض المقاطع المستقطعة في أخبار العالم ليذكرنا بأن هناك إنساناً استنهض القهر والفقر كرامته ليثور في وجه أعداء الإنسانية ومجرمي الظلم والطغيان، وسارقي حق الحياة الكريمة الملائمة لإنسان اليمن "السعيد". فقد صبر إنسان اليمن على التهميش العالمي واستمر بثورته السلمية الناهضة بالإنسان أولاً، ووقف بشجاعة إيمانه في وجه نظام الدكتاتور الذي أدار الدولة واقتصادها وكأنه يدير شركة خاصة له ولعائلته، فدمر المواطن الشريف ببغيه، في النهاية :أجدني أشارك مندوب اليونيسيف في اليمن نظرته المتفائلة لاستنبات حضارة يمنية جديدة قادمة، فاليمن منجم خيرات، وأول خيراته إنسانه الصابر المكافح، القادر على صنع النجاح رغم عوائق التخلف وموروثات الاستبداد..إنه الرهان الصحيح؛ الرهان بإنسان اليمن «السعيد» وداس على الحضارة بغيه، ليستبدل اليمن السعيد خلال ثلاثة عقود سعادته بحزن كسير على مشاهد الفقر المدقع الذي أهلك النفوس ونشر الأمراض وأعيا العقول، وخدّر الطاقات وأوقف حركة الحياة في واقع أشبه بأسطورة بغي ناشزة بخزيها. شاهدتُ - وبعد التهميش المتعمد لثورة اليمن لشهور عدة - برنامجاً وثائقياً عن الفقر في اليمن لايمكن أن يمر على إنسان طبيعي مروراً عادياً دون أن يتساءل هل أنا فعلًا إنسان ؟! فمشاهد الفقر والحاجة والبؤس في ذلك البرنامج كانت حكاية تبكي الحجر والشجر والدواب، أما الإنسان فلا أدري أين تأتي مرتبته في الإحساس ليكون له رقم في ترتيب الشعور. البرنامج جاء على قناة الجزيرة وثائقياً وبالأرقام ليكشف عن القبح العام عندما يسقط الإنسان وينتصر الظلم بكل إجحافاته المتوالية.. يُظهر البرنامج صورة المواطن اليمني عندما يفقد كل حقوقه من غذاء وماء وصحة وتعليم وسكن وحياة كريمة، حتى تظن إن كان للعدالة وجه قبيح بأنه في تعميمها الفقر على اليمن بكل مناطقه، يقول أحد المتحدثين في البرنامج "إنصافاً للنظام السابق أنه أنصف الناس في الظلم سوياً". نعم فلم ينج من الظلم إلا ثلة إقطاعيين يمثلون 2% بينما بقي 88% من الشعب تحت حصار الفقر والجوع والقهر والبطالة، ما خلف كارثة إنسانية أبطأ العالم في توجيه اهتمامه لها حتى تفاقمت بهذه الأرقام المخجلة والمأساوية التي فاقت كل التصورات حسب منظمة اليونيسيف وتقارير التنمية البشرية، وجاءت مفجعة على مستوى الغذاء والدواء والماء؛ الحاجات الأساسية لأي إنسان ولو كان يحيا قبل ألف سنة مما نعدّ اليوم.. استعرض منها: 31% من أطفال اليمن يعانون الجوع، مليون طفل يمني يعانون سوء التغذية يواجه ربعهم الموت لانعدام الغذاء.. 10 ملايين يمني أي نصف السكان يعانون نقص الغذاء، 5 ملايين يمني أي ربع السكان يعانون انعدام الغذاء يومياً، 5 ملايين شخص بحاجة لمساعدات غذائية عاجلة.. اليمن يحتل المرتبة الثانية عالمياً في نقص الغذاء.. ويصنف ضمن أفقر 10 دول في العالم حسب تقارير التنمية البشرية، 45 % يعيشون تحت خط الفقر بدخل لايزيد على دولارين، أما في المناطق الريفية فيشمل 75% من السكان تقدر نسبة البطالة مابين 45 الى 50% وتصل معدلاتها بين الشباب اليمني إلى 53%، وقد أظهر البرنامج مجموعة من الشباب اليمني يقومون بحرق شهاداتهم الجامعية احتجاجا على عدم تمكنهم من الحصول على فرص عمل.. نحو 48% من سكان اليمن ليس لديهم إمدادات مياه نظيفة أو صرف صحي مناسب. يذكر التقرير أيضاً أن الحديث عن توفر الماء والكهرباء والوقود بات نوعاً من الترف حتى داخل العاصمة صنعاء. أما التعليم؛ فيفتقر 300 ألف طفل يمني للتعليم، 20 % من أولياء الأمور أخرجوا أولادهم من المدارس ودفعوهم للعمل ليأتوا بما يسدون به الرمق، ويوضح التقرير أن القدرة الشرائية للمواطنين تراجعت بنسبة كبيرة وارتفعت الأسعار بنسبة 32%. كما أفادت دراسة يمنية مستقلة بأن نحو 2% من سكان اليمن يملكون 80% من الموارد (دخل البلاد) وهو رقم إقطاعي مخزٍ يتجاوز أي وصف أو تعليق. وصف جيرت كابيليري ممثل منظمة اليونيسيف في اليمن الوضع خاصة بالنسبة للأطفال بأنه صعب جداً، وأضاف: "لاتستطيع الحكومة وحدها مواجهة كل تلك المصاعب، الأمر يتطلب كثيرا من المساعدات الدولية وتمويل الحكومة والمجتمع المدني، إلا أنني متفائل بمستقبل اليمن". الدراسة صادمة لكنها نتاج الاحتكار الاقتصادي والفساد المالي وغياب القانون تبقى مستوعبة ومفهومة. رغم أن التأخر الدولي كان واضحاً لإيقاف مهزلة الوضع المتفاقم لاإنسانياً في اليمن، إلا أن التحرك جاء على مستوى الكارثة الإنسانية، فكما قادت المملكة مؤتمر أصدقاء اليمن في مايو الماضي فقد ترأست اجتماع المجموعة الاستشارية لمؤتمر المانحين لدعم اليمن في الرياض هذا الشهر بحضور دولي كبير، تقديراً لحجم التحديات التي تواجه اليمن في المجال الاقتصادي والمالي والسياسي والأمني، والذي يتطلّب تضافر الجهود الدولية والإقليمية لإيجاد الحلول الناجعة والمناسبة للتغلب على هذه التحديات واستكمال الدعم الخاص بالأزمة الإنسانية ومعالجة مشاكل القوى العاملة والبطالة وتشجيع فرص الاستثمارات الأجنبية.. وجاء تطلع المملكة في هذا الاجتماع خاصة واجتماع أصدقاء اليمن الذي سيعقد في نيويورك أواخر سبتمبر الحالي إلى إعلان من الدول والمؤسسات المشاركة في الاجتماعات عن مساهمات تتناسب مع حجم التحديات التي تواجه اليمن الشقيق. يرى راجيف شاه مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في اجتماع اللجنة الاستشارية للدول المانحة "أن توحيد جهود ونشاطات الدول والجهات المانحة من خلال إنشاء صندوق ائتماني متعدد للمانحين سيمنع حالة التشتت الحاصلة في تبني مشاريع الحكومة اليمنية، ويدعمها في الدخول بعهد جديد لبناء مستقبلها ومواجهة التحديات الحقيقية القائمة مع الاستجابة للاحتياجات الحالية الملحة للملايين من مواطني اليمن المترقبين لتلمس النتائج الإيجابية لمثل هذا الدعم على حياتهم.." لذلك فإن الدول التي وعدت بمساعدة اليمن في مشروع بناء متكامل وضمن خطة تراعى فيها احتياجات اليمن عليها الالتزام بتعهداتها، والبدء بتسريع تنفيذ المشروعات المقترحة للانتقال المرحلي الذي يلامس حاجات اليمنيين الأساسية الإنسانية العاجلة، لتخفيف وطأة الفقر تشمل جميع أقاليم البلاد، بما يحقق مزيداً من النتائج المرجوة في دعم التنمية في اليمن، وبالتالي إيجاد بنية تحتية مستقطبة للاستثمارات والوظائف التي تعتبر علاجاً لمرض البطالة الذي تستغله القاعدة، ومن ثم تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة وإذا كان المطلوب من المجتمع الدولي الالتزام بتعهداته التي أعلن عنها في الرياض، لتمكين السلطات في صنعاء من تنفيذ برامج إسعافية أولًا، ثم الشروع في تنفيذ البرامج الإنمائية الاستراتيجية على المستويين المتوسط والبعيد، فبالمقابل ؛ حكومة الوحدة الوطنية في اليمن مطالبة من جانبها بأن تظهر تغيرات إيجابية في حياة المواطنين من خلال تحقيق رغباتهم، والقيام بإصلاحات سياسية واستغلال أمثل للموارد ومحاربة للفساد بتأسيس قواعد لدولة حديثة تنطلق من الأمن إلى التنمية لاستعادة استقرار اليمن السياسي والأمني والاقتصادي، وتعزيز بناء الدولة المدنية وسيادة القانون. ما يجعلنا نتصور حجم مأساة اليمن الحقيقية وصعوبة الوضع المعقد هناك هو إعلان رئيس الوزراء اليمني باسندوة في اجتماع المانحين عن خلو الخزينة العامة من الأموال نتيجة فساد نظام علي صالح، الذي سرق خيرات اليمن بقلبٍ باردٍ وضميرٍ ميتٍ! ولئن كانت أبرز التحديات الحقيقية التي تعيق التنمية والعمل للدول المانحة في اليمن، هو تنامي عمل تنظيم القاعدة والتنظيمات المتطرفة المتحالفة معه كأنصار الشريعة وغيرها من الجماعات المسلحة فقد كانت تركة ضخمة استغل تمديد التلاعب بها نظام علي صالح أبشع استغلال لتحقيق مزيد من التكسب المالي والتربح على حساب أمن وسلامة الوطن وحدوده وجيرانه، والحل في العمل الموحد بين الحكومة اليمنية والمجتمع الدولي لتحمل مسؤولية القضاء على الإرهاب وتحسين موارد الاقتصاد، وهما عمليتان محوريتان متلازمتان لرسم الأهداف الإنمائية المشتركة وضبط الأمن، بوضع الخطط قيد التنفيذ السريع وبالاتجاه الصحيح.. أمام اليمن أيضاً مشكلة وعي ثقافية يلزم المراقبين والمنفذين لمشروع الإنقاذ أن يراعوا ترسخها وضرورة تغيرها سريعاً، وهي الوعي القبلي ومسؤولية تحويله بقيادة الدولة الحديثة إلى الوعي المدني الذي تتساوى فيه الفرص أمام الجميع، ويقود فيه حق الكرامة الطريق نحو العودة لزمن اليمن السعيد، فالدولة المدنية باعتبارها بدهية لابديل عنها لتحقيق المواطنة الحقة هي الحل المنظم للعلاقات الذي يوازن قيمة تعهدات المانحين، ودور الحكومة الجديدة في تفعيل التأسيس الحقوقي على أرض الواقع. في النهاية :أجدني أشارك مندوب اليونيسيف في اليمن نظرته المتفائلة لاستنبات حضارة يمنية جديدة قادمة، فاليمن منجم خيرات، وأول خيراته إنسانه الصابر المكافح، القادر على صنع النجاح رغم عوائق التخلف وموروثات الاستبداد..إنه الرهان الصحيح؛ الرهان بإنسان اليمن "السعيد"