التحدي الأكبر الذي يواجهه المسلم اليوم، بزيّه المذهبي، محصور في هذين اللفظين (الحرية والعقل)، فهما قلق المذهبية والمذهبي، ولهذا تسعى المذهبيات برجالها المخلصين إلى التحايل على هذين المطلبين، فتصوغ مفهوماً للحرية، وآخر للعقل، يكونان فيهما وجهين مشوهين للمذهبية نفسها العقل والحرية هما السحاب وظلّه، يقود أحدهما إلى الآخر، ويدل عليه، وما في طوق أحد أن يتحدث عن أحدهما إلا دفعه للحديث عن الآخر، فمتى وُجِد العقل، والانجذاب إليه، في مكان تبعته الحرية، ولزمت مقامه، ومتى كانت الحرية، والدعوة إليها، في مكان تحدّر إليها العقل، وأنس بها، فهما جنديان، يحرس أحدهما الآخر، من ينادِ بأحدهما يفتح أبوابه للآخر، ويستعد للقائه، ومن يقف في طريق أحدهما يرفع يديه مودّعا الآخر، فلا العقل في مقدوره أن يعيش دون حرية، ولا الحرية في طاقتها أن تعيش دون العقل، هكذا هي العلاقة بين الحرية والعقل، إنهما توأم، لا يفترقان، أحدهما الزارع والآخر المزرعة، أحدهما القلم، والآخر مِداده. الوشائج بين الحرية والعقل لا انفصام لها، كالشمس وضوئها، وما خافٍ على أحد حديث القرآن الكريم عن العقل، ومطالبة الناس بالإنصات إليه، والسماع لأقواله، وما يَعْزُبُ عنّا لوم الله - تعالى - للمعاندين حين استدبروا أصوات العقل التي تناديهم، واحتجاجه - سبحانه - عليهم بهذه الهبة بعد تكذيبهم وصدودهم، ولم يُعذر هؤلاء بفساد قادتهم وملئهم وشيوع الباطل فيهم، فآلة التمييز معهم، وميزان الحق في رؤوسهم، هذه الحفاوة بالعقل في القرآن الكريم تدل بوضوح على حفاوته بالحرية أيضا؛ إذ لا جدوى من المناداة بالعقل، والإصغاء إليه، ما دام الإنسان غير حر في اختياره وتفكيره، وما من العدل أن يُلام الإنسان على ترك عقله، والمؤمّل منه أن يتقيد بظروف زمانه، وإنجازات أسلافه، تلك في ظني الحقيقة الواضحة، فحريتك شرط تفكيرك، وتفكيرك وتعقلك شرط مسؤوليتك، ومتى فقد الإنسان هاتين القيمتين، الحرية والعقل، فلا وجود له، وإلى غياب هاتين الضرورتين يُفسّر ما نعيشه اليوم من غياب، وما دامتا غائبتين، فيحق للإنسان أن يسأل: أين الإنسان؟! والتحدي الأكبر الذي يواجهه المسلم اليوم، بزيّه المذهبي، محصور في هذين اللفظين (الحرية والعقل)، فهما قلق المذهبية والمذهبي، ولهذا تسعى المذهبيات برجالها المخلصين إلى التحايل على هذين المطلبين، فتصوغ مفهوماً للحرية، وآخر للعقل، يكونان فيهما وجهين مشوهين للمذهبية نفسها، يصنع المذهبيون ذلك لعلهم أن يلتفوا على الحرية والعقل، فيُشعروا المذهبي أنه هو الحر، وهو المفكر؛ لكنه تحايل زائل، والتفاف عمّا قليل يُزيّف، فلن تطول المدة التي تقوم فيها المذهبيات مقام الحرية والعقل؛ لأن تلك الخديعة صورة من صور تغييب الإنسان نفسه، وهو تغييب - وإن طال - فإلى حين. وليس للحرية معنى سوى استيقاظ الإنسان من نومه، واحتكامه إلى قوانين عالم العقل، ونزوعه نحو الاسترشاد بهذه الهبة الإلهية، التي يتفيّأ الناس ظلالها اليوم في عالم المادة، وعالم النفس، هذه الكشوف العلمية في معرفة الإنسان وأبعاده، ومعرفة الكون وقوانينه، ما كان لها أن تقوم لولا ميدان الحرية الذي أُشرعت أبوابه - بعد لأيٍ - لهذا الكائن الجبار، فبدأ بالحركة، فانطلقت ملكات الإنسان من عُقُلِها، فأصبح العالم غير العالم، والكون غير الكون، والإنسان غير الإنسان، بالحرية بدّل العقلُ العالم من حوله، وبها سيضحي للدين معنى آخر غير الذي أورثته المذهبيات للناس، وتلك هي المخافة التي تقضّ مضجع المذهبيين، ويوجسون منها خيفة، ودفعت بهم إلى مواجهة الحرية، فهي عندهم السبب وراء أسئلة الإنسان التي لا تنتهي حين يستيقظ العقل من سباته إلا بتغيير المشهد، وإعادة ترتيب البيت الديني، الذي ظل محتلا من قبل مذهبيات، أحالته إلى مجموعة من الإقطاعيات المتنازعة! يقظة العقل إذن رهن بالحرية، وذا أمر تكشفه هذه الحوارات التي دارت بين أبي هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم - وهي حوارات توضح لنا إطلاق العقل، واعتماده على قوانينه الداخلية، تلك كانت مواقف يحكيها لنا السرخسي في كتابه الأصولي، مواقف ترينا وقفة العقل أمام السماع، وهو سماع يرويه صحابي آخر، هو أبو هريرة - رضي الله عنه - وترينا الفارق الكبير بين إنسان هذا العصر، الذي ورث علوما عقلية رحيبة الفناء؛ لكنها لم تعطه قدرة على التحرر، وبين أهل العصر الأول الذين لا يملكون تلك العلوم العقلية؛ لكنهم يستندون إلى العقل ببراءة رائعة، والفارق الكبير بين الطائفتين اتساع مساحة الحرية في الزمن الأول، وضيقها في الأزمنة المتأخرة حين استشرت المذهبيات، وأصبحت القابليات مطموسة بالتقليد، والمشي في الدروب المعبّدة. يقول السرخسي في أصوله (1/ 340 وما بعدها) متحدثا عن موقف بعض الصحابة من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه -:" ولكن مع هذا قد اشتهر من الصحابة - رضي الله عنهم -، ومَنْ بعدهم، معارضة بعض رواياته بالقياس، هذا ابن عباس - رضي الله عنهما - لما سمعه يروي:" توضأوا مما مسته النار" قال: أرأيت لو توضأت بماء سخِن، أكنتَ تتوضأ منه؟ أرأيت لو ادّهن أهلك بدهن، فادّهنت به شاربك، أكنت تتوضأ منه؟! فقد رد خبره بالقياس، حتى رُوي أن أبا هريرة قال له: يا ابن أخي إذا أتاك الحديث، فلا تضرب له الأمثال". يفتتح السرخسي حكايته باشتهار رد رواية أبي هريرة بالقياس، ويُفسر هذه الشهرة بقيام بعض الصحابة، ومن بعدهم من الناس بذلك، وإن كان هذا مهماً عندي، فالأهم في ظني أن العقل اتُّخذ قنطرة، لا يجتاز النص دون المرور بها، والخضوع لمساءلتها، تلك هي قضيتي هنا، فلست معنيا برد رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - بالعقل والقياس، وإنما عنايتي بإحلال العقل محله اللائق به أمام النص والسماع، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أم غيره من أهل الرواية، وتلك المكانة لن يتبوّأها العقل دون حرية، تُقصي قيود المذهبية، التي تحتفل بالأشخاص وأفهامهم، وتُجهد نفسها أن تجد المخرج لما يبدو خارجا عن العقل والقياس من مروياتهم، فكل هذا لا يخرج إلا من ثقافة التقديس، التي ترفع عنهم الخطأ في الرواية والفهم. لم يستسغ ابن عباس هذا الحديث بعقله، فطرح على أبي هريرة أسئلة، بعثت الحيرة في عقل أبي هريرة نفسه، ودفعته إلى أن يقول: يا ابن أخي إذا أتاك الحديث، فلا تضرب له الأمثال، لم يستطع الراوي أن يجد حجة عقلية، يُدافع بها عن روايته، فلجأ إلى تخويف المتسائل أن يقف في طريق الرواية إذا جاءته، وكلنا يعلم أن ابن عباس لم يقف في طريق الرواية، وإنما وقف بعقله أمام فهم الراوي نفسه لما نقله، وتلك هي النكتة التي أشار إليها السرخسي قائلا:" ولعل ظاناً يظن أن في مقالتنا ازدراء به، ومعاذ الله من ذلك، فهو مقدم في العدالة والحفظ والضبط، كما قررنا، ولكن نقل الخبر بالمعنى كان مستفيضا فيهم، والوقوف على كل معنى أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكلامه أمر عظيم، فقد أوتي جوامع الكلم، ...، ومعلوم أن الناقل بالمعنى لا ينقل إلا بقدر ما فهمه من العبارة، وعند قصور فهم السامع ربما يذهب عليه بعض المراد". وفي موقف آخر لابن عباس يحكيه السرخسي قائلا:" ولما سمعه يروي:" من حمل جنازة فليتوضأ" قال: أيلزمنا الوضوء في حمل عيدان يابسة؟" هذا وذاك مشهدان من مشاهد إنارة العقل، ونموذج من نماذج سيرته مع النص، وهي الحال المنتظرة، وإن كانت نادرة وشاذة، في تعاملنا مع كل ما ورثناه، فليس تُقاس الأمور بالكثرة! هذان المشهدان ينقلان لنا وقوف صحابي في وجه رواية آخر عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فماذا نقول اليوم، ونحن نتلاوم ونتشاتم حين نقف في وجه أفهام، نُقلت عن عصور، تباعدت عن عصر الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه؟ وإذا كان ابن عباس قد احتكم إلى عقله في مواجهة منقولات أبي هريرة - رضي الله عنهما - فلنا فيه أسوة حسنة، تأخذ بنا لنجعل عقولنا قنطرة، لا يعبرها التراث إلا بعد فحصه، واستخارة التأمل فيه، فقد شكّلت عصور الأسلاف فلاتر لهذا التراث؛ لكن بقي علينا نحن أن نتخذ من عقولنا فلاتر، خاصة بعد اشتداد التقليد في هذه العصور، وشيوع التعصب المفرّق، فلا قيمة للعقل، إن لم يفلتر لحامله ما يشاهده، ويقرؤه، ويتناقله! ومع كل ما يجري على أيدينا سنظل نخاطب بعضنا بخطاب أبي هريرة لابن عباس - رضي الله عنهما -: يا ابن أخي! فما من قيمة في الدعوة إلى الحرية والعقل، إذا كانت ثقافة سوء الظن هي الحاضرة والقريبة، وما من فائدة في الحرية والعقل، ونحن نتجسس على نيات الناس وضمائرهم، وندعي علم الغيب حين تفسير آرائهم وتوجهاتهم، فسوء الظن وحرية العقل نقيضان لا يجتمعان إلا وفق مفهوم المذهبية للحرية والعقل، فتلك لها مفاهيم الخاصة، وعالمها الفريد.