مكافحة الفساد وتعميق قيم النزاهة في المجتمع مسؤولية مشتركة بين الجميع أفراداً ومؤسسات، وهي من أعمال الاحتساب التي يثاب عليها الإنسان، ومن مرتكزات المواطنة التي تحمي الحقوق ومقدرات الوطن من النهب والسرقة، وهي أيضاً من المهام التي تمنح الإنسان حضوراً واعياً، من خلال مشاركته في المتابعة والرقابة والإبلاغ عن كل مخالف أو مخالفة، وهي كذلك من باب التعاون على الخير. ويبرز دور العلماء والدعاة في المجتمع من باب أولى في إرشاد وتوجيه الناس إلى المشاركة وتحمّل المسؤولية في مكافحة الفساد، وتعزيز قيم النزاهة، والتأكيد على خطورة الإفساد في الأرض، ونصح المخالفين، والتحذير من عواقب الاختلاس والسرقة والنهب في الدنيا والآخرة، وتحريض الضمير على أن يبقى حياً خائفاً من العقوبة، وملتزماً بالنظام، وأن لا يأخذ مالاً ليس له فيه وجه حق، كما أن للعلماء دورا مهماً في تسليط الضوء على كل ما يتعلق بالفساد، والتعريف بمفاهيمه وأنماطه، واستراتيجيات مكافحته، وإبراز دور التشريعات في الحد من انتشاره، وكشف آثاره الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. محمد الشريف دور العلماء وحمّل معالي الأستاذ "محمد بن عبدالله الشريف" -رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد- الدعاة والعلماء جزءًا من مسؤولية غرس قيم النزاهة في المجتمع، مبيناً أنّ الهيئة ومنذ أن باشرت عملها نظمت عدة زيارات ولقاءات مختلفة مع المؤسسات الدينية والقائمين عليها، ولقيت دعماً غير محدود، وتفاعلاً ملموساً، سواء كانت تلك اللقاءات التي تمت مع المفتي العام للمملكة سماحة الشيخ "عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ"، وأعضاء هيئة كبار العلماء، أو مع المسؤولين والدعاة في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد -الذين بادروا بتوجيه خطباء الجوامع للتطرق لموضوع الفساد في خطبهم المنبرية-، منوهاً أنّه بالرغم من ذلك، إلاّ أنّ هذا التوجيه كان على فترات متقطعة، والضرورة تقتضي الاستمرار في ذلك. استراتيجية وطنية وأوضح "الشريف" أنّ الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (43) وتاريخ1-2-1428ه؛ حثت العلماء والدعاة على أهمية تعزيز القيم الدينية التي من شأنها إيجاد مجتمع نزيه، معظّم لحرمة المال العام، ومحافظ على ممتلكات ومقدرات بلاده، مضيفاً: "نحن في بلد مسلم، يستلهم سلوكه من القرآن الكريم والسنة النبوية، ولهذا كانت الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد منطلقة من هذه المصادر العظيمة، بوصفها أسمى المصادر وأعظمها، وأكثرها شمولية وتكاملاً، فالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، ولهذا فهو يعتبر كل عمل من شأنه الانحراف بالوظيفة عن مسارها الشرعي والنظامي الذي وجدت لخدمته فساداً وجريمة تستوجب العقاب في الدنيا والآخرة، وتأسيساً على ذلك كان تحصين المجتمع السعودي ضد الفساد بالقيم الدينية والأخلاقية والتربوية من أهم أهداف الهيئة التي تترجمها الوسائل المنصوص عليها في الإستراتيجية". عثمان العيسى النصح والوعظ وقال الأستاذ "عثمان بن سليمان العيسى": "إنّ المتأمل لدور العلماء يجد أنّهم أدوات فاعلة في تعزيز النزاهة والقيم النبيلة والأخلاق الفاضلة، ومكافحة آفات الفساد، وذلك لما لهم من تأثير كبير على أفراد المجتمع المتدين بطبعه، وبإطلالة موجزة على هذا الدور، نجد أنّ العلماء والخطباء والوعاظ، كانوا وما فتئوا يؤدون ما فرضه المولى -جل وعلا- عليهم، من واجب بيان الحق، وتقديم النصح، ووعظ الناس، وتوعيتهم بما ينفعهم وما يضرهم، وذلك كله على ضوء من كتاب الله الكريم وسنة نبيه المطهرة، النابعة من قوله تعالى: «إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها»، وقوله تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولاً»، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)". ترغيب وترهيب وأضاف "العيسى": "العلماء هم أقرب لفئات المجتمع، نجد أنّهم استخدموا في معالجتهم لمعضلة الفساد أسلوباً قرآنياً بليغاً، وتحديداً في تلمس نفسيات المخاطبين والتأثير عليها، وفق الترغيب والترهيب، فبالترغيب يحفّز الموظف ليقبل على عمله بنفس راضية، وبحماس كبير، فينجز مهامه إنجازاً فائقاً ويؤدي أداءً متميزاً، التماساً لعاجل ثواب الدنيا، وفضل ثواب الآخرة، وبالترهيب يخوّف الموظف من مغبة ما سيلحقه من إثم ديني وعقاب دنيوي وأخروي، لا لغرض سوى حفظ ذمته ودينه أولاً، وكشف الأخطاء وتصحيح الانحرافات قبل أن تستفحل في المجتمع، ولذا نجد أنّهم أسهموا وبشكل فاعل في الحد من أي إساءة للوظيفة العامة، سواء أكانت رشوة، أو متاجرة بالنفوذ، أو إساءة استعمال للسلطة، أو إثراء غير مشروع، أو اختلاس المال العام"، مبيناً أنّ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من أكثر الخلفاء تطبيقاً لأسلوب الترهيب على الولاة والعمال في الدولة الإسلامية، فقد كان شديداً على ولاته، يقاسمهم أموالهم إذا تكاثرت دون مبرر، وكان يعاقبهم إذا رأى فيهم الفساد أو الانحراف المالي. التنوع في المعالجة وأشار "العيسى" إلى أنّ العلماء في ضوء معالجتهم لمشكلة الفساد لم تكن طرقهم ووسائلهم دينية خالصة، بل إنّهم نوعوا من أساليب التطرق للمشكلة ومحاصرتها قبل استفحالها، بالبحث في الاستعداد النفسي لتقبل الفساد أولاً ثم استمرائه، وهذا ما أشار إليه "ابن القيم الجوزية" -رحمه الله- في كتابه "الفوائد": حيث قال: "إن مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري، هو الخواطر والأفكار؛ فإنّها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكرار الفعل تعطي العادة". عبدالعزيز الفريج الدعوة بالحكمة وأكّد الشيخ "عبدالعزيز بن فهد الفريج" -إمام مسجد ابن ثنيان بالرياض-على أنّ دور العلماء وأئمة المساجد في النزاهة ومكافحة الفساد كبير، إذ يتوجب عليهم من خلال المنابر أن يكونوا قناديل إصلاح وحث على النزاهة ومحاربة الفساد؛ لأنّ الله -عز وجل- نهى عنه بقوله تعالى: (والله لا يحب الفساد)، لذا فالعلماء وأئمة المساجد لهم دور بارز في مكافحة الفساد وتوجيه الناس إلى ما فيه الخير والسعادة لهذا الوطن، مبيناً أنّ ذلك يجب أن يكون بما حباهم الله من علم وحكمة لقوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين"، مشدداً على ضرورة أن يكون لهم قدم صدق وموضع قدم في محاربة الفساد أينما وجد. مسؤولية الجميع ووجه "الفريج" رسالة إلى كل عالم وإمام بالاضطلاع بمسؤولياته تجاه مكافحة الفساد ونشر النزاهة بالمجتمع كل من جهته، مضيفاً أنّ الدين الإسلامي ليس دين فساد، بل نزاهة واعتدال، مشدداً على ضرورة أن تكون رسالة المسجد معتدلة، حيث انّ لأئمة المساجد والعلماء دورا عظيما لاستكمال مهمتهم، وعليهم توعية الناس بخطورة الفساد على ضوء الكتاب والسنة، وتشجيع الشباب لأداء مهامهم بحماية المؤسسات والممتلكات العامة والخاصة، وإخبارهم بأهمية الدور الذي يؤدونه، إلى جانب التذكير المستمر بحرمة الدماء والأموال العامة والخاصة كحرمة الكعبة في يوم الحج الأكبر كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام.."، ويمكنهم الإفادة من المواسم الدينية كصلاة الجمعة وغيرها، وتبيين أثر ضعف الوازع الديني في انتشار الفساد، وحث المصلين على وحدة نسيج هذا الوطن، وغرس روح المواطنة، ومنهج التناصح، وتعزيز قيم النزاهة ومكافحة الفساد بالحكمة والموعظة الحسنة.