لم أجد وصفاً يليق بفضيلة إمام الحرم المكي معالي الشيخ الدكتور صالح بن حميد في خطبته يوم عيد الفطر كوصف "الحبيب"، فقد فاض بالحب ودعا للمحبة العامة الشاملة الكاملة للعباد والبلاد بكل أبعادها وتفاصيل جمالياتها، فجاء فيض الحب هتاناً ساحّاً بالجمال، لاغرو؛ فالحديث عن الحب والمحبة مصدر الجمال، لأنه بحد ذاته أصل الجمال. «الحب عواطف ومشاعر وسلوك وإعلان، الحب شعور فطري إنساني نبيل يبرزه ويظهره سلامة الصدر من الغل والغش والحسد، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله «لولا لطافة الحب ولذته ماتمناه المتمنون» من مكةالمكرمة صدع صوت الحب ينادي المستمعين لخطبته بمعاشر الأحبة، فاضت الخطبة بالمحبة فغشيت الناس السكينة وضمهم الخشوع، واستمعوا لأنشودة السحر الحلال "الحب" صافياً نقياً عبقاً كأنفاس الربى، وتراتيل المتبتل. وبعد التكبير والحمد والتوحيد لله سبحانه هنأ الجميع بالعيد ودعا لهم بالقبول، وزاد كرسول سلام يبشر بالخير من عند الغني الوهّاب "فرحتم بعيدكم كما فرحتم بصومكم،إن لكم فرحة كبرى بإذن الله حين تلقون ربكم" داعياً بالبركة والزيادة في الفرحة والمحبة والسرور. ثم ذكّر بالحكمة من الأعياد؛ بأنها لأجل الحب والجمال: فهي(الأعياد) "لتقوية أواصر المحبة وتزكية مشاعر المودة وتوثيق أواصر العلاقات" رابطاً فرحة العيد وبهجته بالحب، بل وقاصراً تلك الفرحة على الحب : "ولا يعيش المرء بهجة العيد وفرحته إلا بالحب، بالحب يكون التواصل وتنسجم اللُحمة ويصدق التكافل ويتحقق التعاون...بل هو علاج من الأدواء والأسقام" "هذا عيدكم أهل الإسلام اذا تحقق فيه الحب زال من النفوس الاكتئاب والانقباض، ذلكم أن الإنسان روح تسمو وعقل يدرك وقلب يحب وجسم يتحرك"، وكل هذا الكل للإنسان لايمكن أن يحقق السعادة إلا بالحب، بالحب وحده يكون المرء في حالته الصحية التامة روحاً وعقلاً وقلباً وقالباً. وبنظرة شمولية تستلهم بالحب كل مايصدر عن الإنسان يزهو بمعرفة طبيعة الحب الوهّابة: "الحب عواطف ومشاعر وسلوك وإعلان، الحب شعور فطري إنساني نبيل يبرزه ويظهره سلامة الصدر من الغل والغش والحسد، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله "لولا لطافة الحب ولذته ماتمناه المتمنون"، والكل يتفق مع فضيلته بأنه "يكفي في الحب منزلة أن كل إنسان يود أن يكون محبوباً ويكره أن يكون مبغوضا". ويعتبر الحديث عن الحب مسلياً للمرء عن همومه وما يكدره، ينقله من حالة الكدر إلى حالة السعادة "الحديث عن الحب جميل وطويل وممتد ومتسع، وهمومنا وغمومنا ومآسينا على كثرتها وثقلها لاينبغي أن تكون مانعاً عن الحديث عن الحب وإعلان الحب وإظهار المحبة، ثم يصرح بأنسه عن حديث الحب: "وإذا لم يكن الحديث عن الحب في يوم العيد فمتى يكون الحديث" وبفلسفة سامية متعالية لمفهوم الحب يتبادل الحب والعيد موقعيهما ليصبح الحب عيداً، والعيد حباً، يمتزجان بتلازم دائم ليصبحا شيئاً واحداً، "وهل العيد إلا الحب!، وهل الحب الصادق إلا عيد يتكرر كل لحظة " ؟ عبارة عظيمة تتَّقد بروح الحب وحلوله، فهنيئاً لمن وجد الحب الصادق وهنأ بأعياده المتكررة. ويمضي ليؤكد أن الإسلام يحث أبناءه على المحبة والتحابب والتواد، "ومن لطائف ديننا أن أمرنا بإعلان الحب وعدم كتمانه، ومن ذلك "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب في أول أيامه في المدينة حين وصل مهاجراً عن المحبة، وكان مما قال عليه الصلاة والسلام وآله (تحابوا بروح الله بينكم إن الله يبغض أن يُنكث عهده). ويفيض الشيخ بالحب فتتولد المعاني حرة لتضم كل الوجود: "أيها الأخوة الأحباب ومشاعر الحب الصادق في الإنسان لها شأن عجيب فهي ممتدة إلى كل مايقع تحت مشاعره ونظره واتصاله وعلاقاته من حبه لربه، وحبه لنبيه، وحبه لدينه ومعتقده، وحبه لنفسه وحبه لوالديه، وزوجته وأهله وإخوانه وأصدقائه وحبه الناس أجمعين، وحب وطنه وممتلكاته وحب ماحوله مما خلقه الله في هذه الحياة الدنيا وبثه فيها من طبيعة وموجودات جامدة ومتحركة، بجمالها وألوانها وروائحها ومناظرها وزينتها" وفي ظل التكبيرات تتصل المحبة بين الخالق والمخلوقين "الله أكبر ماتبادل المسلمون الزيارات والحب والتحيات في هذا العيد البهيج". وبعد أن بيّن أعظم الحب وأعلاه؛ حب الله ورسوله وأنه خاص لمن سلم قلبه فأحب الخلق جميعاً، ذهب لأمل المؤمن بعزم الواثق بربه "ومن لطف الله وكرمه أنه عز شأنه يحبنا ويحب توبتنا ويحب أن يتوب علينا، فهو سبحانه يحب المحسنين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب المتقين، ووالى الشيخ سرد المحبوبات التي فطر الله الناس عليها، ويسرد صوراً منها من سيرة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام "الحب شيء عظيم ولذلك عظّم الله المنّة بإيقاع المحبة بين أهل الإيمان فقال عز شأنه (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) ثم يربط بين الحب والإحساس بالسعادة والجمال "الحب يضفي على الحياة بهجة وسرورا، وينقلها إلى أجواء من السعادات والجمال والرضا، ويكسو الروح بهاء وحبورا". ويستعرض في دائرة الحب الواسعة؛ الحب المقرون بالرحمة نحو اليتامى والمساكين والأرامل والطبقات المستضعفة ومن يحتاج إلى مزيد عطف وحنان من ذوي كل كبد رطبة. ثم أهاب بالحب- ولن يخيبه - بأنه الأمل الموصل لكل خير "الناس إذا تحابوا تواصلوا، وإذا تواصلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عملوا، وإذا عملوا عمروا، وإذا عمروا بورك لهم" إنها نصيحة تقريرية تصنع من الحب قلعة حصينة يتفيأ تحت ظلالها المتحابون فينعمون أمناً ونعيماً. ويعود الشيخ حفظه الله لفلسفة الحب المباركة رابطاً بين حالة الحب القصوى وكمال اللذة: "وكمال اللذة تابع لكمال المحبة، فأعظم الناس لذة بالشيء أكثرهم محبة له"، مؤكداً أن كمال المحبة في تواضع المحب "فليعوّد نفسه محبة الناس والتودد إليهم والتحنن عليهم والرحمة بهم، فإن الناس مخلوقون من نفس واحدة"، إنه تواضع مخصوص يدركه المحب بلينه وصدقه، "وإذا كان الناس كلهم من نفس واحدة فحُقّ عليهم أن يكونوا متحابين متوادين". لكن هذا الفضل متى يأتي للإنسان؟ "إذا أحكم الإنسان نفسه الغاضبة وانقاد لنفسه العاقلة صار الناس كلهم عنده إخواناً وأحباباً "، ثم يتعالى بفهم وجودي ونفسي سادر بعمقه سامق في مثاليته عندما أكد هذه المقولة " وقد قيل لو تحاب الناس وتعاملوا بالمحبة لاستغنوا عن العدل، فإن العدل خليفة المحبة يُحتاج إليه حينما لاتوجد المحبة" نعم، فلو تحاب الناس لما اشتكوا الظلمَ ولا اشتاقوا للعدل، لأنهم أصلاً يعيشون في جنته ونعيمه؛ بحبهم، وينعمون بفيئه السادر؛ بودّهم. ثم ينتقل لتعداد هبات الحب الصادق الذي "يجعل المرَ حلواً والكدرَ صفاءً، والسجنَ روضة، وهو الذي يلين الحديد، ويذيب الحجر، وبه تنقلب المحن منحا، والابتلاءات نعماً" وأنَّى لمحب يشكو المر، أو يخشى الكدر، أو يضيق بسجن ؟! ويمضي مستدلاً بحديث ينضح بالعلامة الفارقة للمؤمن، (لاتدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا..) فإن كنت محباً فأنت مؤمن، وإن كنت مبغضاً كريهاً فلست للإيمان أهلاً. ثم ذكر كثيراً من صفات المؤمنين المتحابين بأنهم من يسعى إلى: "قضاء الحوائج وتنفيس الكروب وستر العيوب، فمن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة". ثم يستدل الشيخ حفظه الله بحديث (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)، قمة المحبة لأجل الإنسان، وقمة الرضا من الله على الإنسان مادام في خدمة أخيه الإنسان. ألا ترون أبجديات الإسلام تعتمد هذه الأساسات المتينة من المحبة والتواصل والستر؟! فأين هذه المعاني العظيمة من حالنا اليوم؟، وهل وصلنا للحال الذي أصبح التغيير فيه ضرباً من المحال؟! ويأسى الشيخ أشد الأسى على حال الإنسان الذي يفتقد فضيلة المحبة:" فقدان الحب شيء مخيف ينقل الإنسان إلى مرتبة الحيوان الذي لاتحركه إلا غرائزه، وأنانيته ومطالبه الشخصية" ثم ينتقد إعلام اليوم، الذي يسوّق بثقافته إلى " ربط الحب بالمعاني الساقطة والمسلسلات الهابطة والعلاقات المحرمة، مسخوا الحب إلى معصية آثمة وعلاقات قصيرة محدودة.." نعم والله، فمن يبحث عن العلاقات القصيرة بأي صورة فهو إنما يشوه ويحقّر قداسة الحب ويدنس شرفه. وينهي خطبته كما بدأها بالحب مقرراً أن " العيد فرحة وبهجة ومحبة لمن حسن خلقه وطابت سريرته". خطبة ذات أثرٍ عطريٍ سرمدي،تضفي جمالاً كونياً بحجم الوجود، وما علينا كمستمعين إلا أن ننعش الحب بداخلنا لتبتهج به أرواحنا وتسلم به قلوبنا، وتطيب بأفيائه سريرتنا. هذه الخطبة ليست غريبة عن الشيخ صالح بن حميد، لكنها جوهرة تنضم لعقد خطبه المميزة، فمن يتابعه يدرك أنه إمام لم يشتغل على الناس بل عمل لأجلهم، فأتت معانيه ساحّة غدقة بالخير تتهادى صادقة شفيفة سمحة طيبة، تحبه المعاني فتأتي طوعه بلا حاجة لسجع يتكلفه مجاهدة، فجرس الصدق جَرْسُه، سلم قلبه فعف لسانه، فلم يدّع يوماً أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولم يعتلِ درجات المنبر ليعرض بهذا ويشتم ذاك، ولم يتهم أحداً بخيانة وطن أوخدمة أجندات، لا تهفو روحه النبيلة إلى إيغار الصدور وكراهية العباد، لأنه داعية سلام وإسلام، لم يبحث عن الشهرة بالأتباع، لكن سماحته أشهرت المحبة له في قلوب الناس. شخصياً؛ أحرص على سماع خطبه، ولا أتصور يوماً صلاة الفجر في الحرم المكي الشريف دون أن يتهدج بها صوته السمح الرخيم فيتهجد القلب بنور باريه وينضم إلى سبحة الخير والتمجيد. جزاك الله خيراً يا شيخنا الفاضل وزادك من فيض الحب وبركاته... ولكل المحبين عيد سعيد لأجل قلوبكم السعيدة بمحبتها، ودامت سعادتكم سرمداً بمحبيكم.