لقد أصبح العمل الخيري ركناً مهماً من أركان الحياة المعاصرة؛ فهو يحقق بكل ضروبه القيم النظرية للتكافل الاجتماعي بين شرائح المجتمع ويقيمها حية نابضة على أرض الواقع، كما يعد سلوكاً إيجابياً يعكس المشاعر الإنسانية لدى الشرائح القادرة، وبسبب ما تقدم أصبح العمل الخيري سمة حضارية بارزة في المجتمعات التي يفشو فيها وتربى على تقاليده أفرادها. ولقد صار لمنظمات المجتمع المدني ومؤسساته اليوم من الثقل والتأثير والنشاط الكبير، ما يرقى بها إلى مكانة المؤسسات المهمة. وأصبحت هذه المنظمات مقياساً يقاس به تقدم المجتمع وتطوره، في ضوء مساهماتها المؤثرة في بناء اللحمة الاجتماعية والاستفادة من الطاقات البشرية وتفعيلها، من أجل تعزيز قيم التعاون والتراحم والتعاطف بين الناس. وعلى الرغم من أن ذلك ظاهرة حياتية ملموسة في الشرق والغرب لا يزال بعضهم ينظر إلى مفاهيم العمل الخيري نظرة ضيقة تكاد تكون محصورةً في مجالات الإغاثة الإنسانية لا تتجاوزها، ولا تتعدى كون هذه الأعمال نوعاً من الاستجداء تنحصر في نطاق ضيق لا يتجاوز مجالات الإطعام والكسوة والعون المادي المحدود. بل لقد ظل الأنموذج التقليدي الذي يعتمد على الفردية في العمل الخيري لدى بعضهم إلى عهد قريب يتمثل فيما يقدمه المتبرع مباشرة للمحتاج، ولا يحبذ التعامل مع النظام المؤسسي الخيري الذي يقوم على النظم واللوائح ويكرس الاستمرارية وتوريث الخبرات والشورى وغير ذلك من القيم المهمة. وهذه النظرة، وإن كانت تمثل عملاً إنسانياً محموداً، تظل أقل بكثير مما ينبغي أن تكون عليه في ضوء الطاقات الهائلة التي يملكها العمل الخيري بمفهومه الواسع الذي يشمل إلى جانب الإغاثة الطارئة المساهمة في بناء المجتمعات في المجالات التعليمية والتنموية والثقافية والتربوية. ولو تأملنا قليلاً في بعض أنشطة الجمعيات والمؤسسات الخيرية، ومنظمات المجتمع المدني لوجدنا أن ثقافة العمل الخيري لدى الكثيرين تتطلع دائماً إلى معالجة الفقر من خلال البحث عن سد الحاجات اليومية للمحتاجين والفقراء والمساكين، ولا تعير اهتماماً كافياً إلى تأهيل وتدريب الشرائح والفئات المستهدفة لتحولهم إلى طبقة منتجة تنهض بنفسها ومحيطها المكاني والاجتماعي. أما الاهتمام بتوظيف الطاقات من أجل التنمية فإنه يظل توجهاً يؤصله ويسير عليه بعض المؤسسات الخيرية التي قد لا نجد لها اليوم هذا الحضور الذي يناسب طبيعة العمل الخيري وتبعاته ومسؤولياته. ومن هنا يجب علينا أن ننتقل بالعمل الخيري من الرؤية "التقليدية" الضيقة وهي الإحسان إلى المحتاجين والفقراء، إلى التنمية الشاملة للمجتمع لاكتشاف وتطوير قدرات المحتاجين وتأهيلهم للعمل والكسب لا مجرد الاقتصار على السؤال وتلقي الإعانات. هناك حقائق مذهلة على الأرض، من فقر وبطالة وأمراض وحاجات ملحة لفئات من المحتاجين، وفي المقابل هناك لدى المسلمين ثروات وأموال طائلة يمكن الاستفادة منها، غير أنه توجد حلقة مفقودة بين الواقع والمأمول، بين العمل الخيري بأوضاعه القائمة من جهة وبين القطاع العريض لدروب التنمية التي تخدم ملايين المسلمين وتنهض بآمالهم والثروات المحجمة المتاحة من جهة أخرى. لا أتصور حتماً أنه لا يوجد بيننا من هو قادر على " صنع معجزات" في العمل الخيري وإبداع أفكار كثيرة، لعل أهمها فكرة الاستثمار في العمل الخيري. هذا المنجز الحضاري الكبير الذي يعبر عن فكرة الاستثمار الحقيقي للصدقات والزكوات أين يبدو اليوم على خارطة مشروعات المحسنين، وفي أجندة منظمات العمل الخيري ومؤسساته؟. الصدقات تسد بعض الحاجات لكنها تعجز أن تكون عملاً قادراً على مواصلة تحقيق الكفايات، لكنها يمكن أن تمنح الإنسان المحتاج صحة وتعليماً وتدريباً، تتحرك في مدى واسع تعبر عن حاجاته لمواجهة ظروف الحياة الطاحنة بأمل الشفاء أو تجاوز حاجز بطالة أو المساهمة في بناء الإنسان علماً وثقافة وعقلاً. فهل هناك عمل خيري يتجاوز في أهميته تخفيف معاناة الإنسان أو بناء عقل قادر على مواجهة الحياة بثقة القادر على الإنتاج والعطاء؟!. إن منظمات العمل الخيري ومؤسساته مطالبة بأن تنشر ثقافة العمل الخيري بمفهومه الواسع والإمكانات المتاحة كافة، وتعزيز برامج التنمية المستدامة إلى جانب الإغاثة بحيث تولي قضايا التأهيل والتدريب والتطوير وبناء الإنسان اهتماماً كبيراً، وهي أن يتحول المحتاج إلى إنسان منتج بدلاً من أن يكون مستهلكاً؛ لأننا بحاجة إلى محاربة الفقر بالعلم، والكسل بالتدريب والتأهيل، والعجز بالتطوير، وبحاجة إلى إنشاء مراكز تدريب وتأهيل وتطوير وإلى دعم مراكز أبحاث ونشاطات علمية هنا وهناك. وهذا كله يتطلب تغيير نظرة المجتمع إلى العمل الخيري من اقتصاره على الدور الخدمي والخيري الضيق إلى نظرة جديدة تقوم على اعتبار العمل الخيري شريكاً أساسياً في تنمية المجتمع المستدامة.