استبعد المدير العام لمؤسسة «الوقف» الدكتور محمد بن ناصر الكثيري، إطلاق صفتي التشتت والتشرذم، كسمة رئيسية، على الأعمال والمشاريع التي تقدمها المؤسسات الخيرية الإسلامية، معتبراً أن «الواقع يسجل تكاملاً ونضجاً كبيرين في أداء عدد من المؤسسات الخيرية» غير أنه أقر بأن «الحملة الإعلامية الغربية الظالمة أثرت سلباً في الظهور الإعلامي للمؤسسات الخيرية الإسلامية»، رافضاً إلصاق حكم الفشل على الجمعيات الخيرية (التي تم إغلاقها حول العالم) بسبب عدم تبرير مصادر الدخل والدعم لديها، بيد أنه أكد أن «الفشل، إن وجود، ليس خاصاً بالجمعيات الإسلامية، فالمؤسسات الخيرية الغربية قد ارتكبت جرائم وتورطت في دعم مناشط إرهابية». في ما يأتي نص حوار معه. على رغم ما طاول عدداً من المؤسسات الخيرية الإسلامية حول العالم من تضييق ومحاصرة، إلا أن مؤسسة «الوقف» بقيت بعيدة عن كل ذلك، في أنشطتها الداخلية والخارجية سواءً... سؤالي: إلى ماذا تعزون هذا الأمر على رغم أن المؤسسة انطلقت منذ سنوات طويلة؟ - أوضح في البداية أن المؤسسة انطلقت منذ ما يربو على 20 عاماً، ومؤسسة الوقف منذ نشأتها ركزت على المشاريع طويلة المدى ذات الأثر الفعال في بناء الإنسان وتنميته بما يصنع منه عضواً إيجابياً لوطنه وأمته، شأنها في ذلك شأن العديد من المؤسسات والجمعيات الخيرية التي نهجت هذا النهج، هذا من جانب. ومن جانب آخر كان لما تتميز به المؤسسة من نظام إداري يبدأ من مجلس أمناء فاعل يضم نخبة من العلماء والخبراء في العمل الخيري، وتحظى أعمال المؤسسة وكل مشاريعها بإشراف دائم ومتابعة دورية من قبله (المجلس) دور في تجنيب المؤسسة ما حدث بعد فضل الله تعالى. بعد إغلاق مئات المؤسسات الخيرية الإسلامية حول العالم بسبب تهمة تمويل الإرهاب... هل يمكن أن نعزو ذلك إلى فشلها في توضح مصادر الدخل والدعم وشفافية أوجه الإنفاق؟ - لم يصل عدد المؤسسات الخيرية الإسلامية التي تعرضت للإغلاق إلى هذا العدد ولا قريب منه، وإن سلمنا بوجود بعض الفشل لدى بعض هذه المؤسسات إلا أن هذا الفشل ليس خاصاً بها، فغيرها من المؤسسات الخيرية الغربية قد ارتكب جرائم وتورط في دعم مناشط إرهابية، فالفشل – إن وجد - ليس خاصاً بها، أما ما حدث من إغلاق فيعزى بدرجة كبيرة إلى الحملة الغربية الظالمة التي استهدفت مؤسسات العمل الخيري الإسلامي، ولا تزال. هل تأثر العمل الخيري في السعودية جراء الأزمة المالية العالمية، ولا سيما أن معظم مصادر تمويل العمل الخيري قائماً أساساً على التبرعات والمنح؟ - يظهر بجلاء للمراقب أن الأزمة المالية العالمية ليست خاصة بالغرب - وإن انطلقت منه - فقد امتدت تأثيراتها إلى جميع دول العالم، وهذه الدول تقوم اقتصاداتها على المؤسسات المالية والمصرفية العامة والخاصة، وفي النهاية يشكل الفرد المكون النهائي للمنظمة المالية والمصرفية محلياً وعالمياً، وتأثيرات الأزمة المالية نالت الجميع. هل أنت مع القائلين بأن التشتت والتشرذم في جهود منظمات العمل الخيري الإسلامي، هو سمة رئيسية تلتصق بأداء هذه المنظمات؟ - إذا كان هناك تشتت في بعض الأعمال والمشاريع التي تقدمها بعض المؤسسات الخيرية فهذا لا يعني بالضرورة أن التشتت والتشرذم سمة رئيسية! بل على العكس من ذلك، فالواقع يسجل تكاملاً ونضجاً كبيرين في أداء عدد من المؤسسات الخيرية الإسلامية، بل إن بعض هذه المؤسسات على مستوى عالٍ من الاحترافية بحيث يمكن أن تكون أنموذجاً إدارياً يحتذى ويقتدى به في القطاعين العام والخاص. برأيكم... ما مقومات العمل الخيري المستدام والناجح؟ - تشير كلمة «الخير» في اللغة إلى كل ما فيه نفع وصلاح، أو ما كان أداة لتحقيق منفعة أو جلب مصلحة، ومنفعة الفرد لا تتحقق بصورة فعالة إلا عند تجاوز حاجاته اليومية إلى ما يتطلبه البناء الحضاري للمجتمع والأمة، وما من شك في أن عماد الحضارة هو الإنسان الذي كرمه الله - تعالى - واستخلفه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، والعمل الخيري الناجح هو الذي يسعى لبناء الإنسان، فكما أن الإنسان هو مَنْ تُنتظَر منه المبادرة بعمل الخير، فهو الذي ينبغي أن يكون أول مستفيد من عمل الخير معنوياً ومادياً. لقد بدأنا نشهد نقلات نوعية في مجال العمل الخيري، وقد استطاع القائمون عليه من تغيير الصورة النمطية التقليدية عنه ليكون عملاً يحقق الاحترافية في الإدارة والتخطيط والاحترافية في الأداء المالي والمحاسبة والتقويم والاحترافية في تطوير الكوادر البشرية وبناء الخبرات المتخصصة ليكون بذلك قطاعاً ثالثاً من قطاعات التنمية الشاملة. هناك اليوم أقسام علمية للعمل الخيري في الجامعات، وهناك كراسي بحث علمي متخصصة في العمل الخيري، وهناك مراكز دراسات للعمل الخيري، ومواقع إلكترونية للمهتمين بالعمل الخيري، وحملة شهادات عليا متخصصون فيه. أناس يطلبون الصدقة وهم لا يستحقونها، ومخادعون يدَّعون الفقر والفاقة ليستدروا عواطف الناس ويأخذوا أموالاً لا تحل لهم، في ما يبقى المحتاجون حقاً خلف الأبواب يكاد يفتك بهم الفقر... كيف يمكن إيجاد حلول للوصول إليهم؟ - في نظري أن هذه المشكلة ذات بعدين: بعد ثقافي يتمثل في الظاهرة التي أشار إليها السؤال في شقه الأول، وبعد تنظيمي يتمثل في تمكن منتحلي الفقر من الوصول إلى المساعدات التي ليسوا أهلاً لها، والحل يكمن في تكاتف مؤسسات التربية والتعليم والتوعية والإعلام مع المؤسسات الخيرية لنشر الثقافة والوعي والشراكة بين مؤسسات الضمان الاجتماعي ومكاتب العمل مع المؤسسات والجمعيات الخيرية لبناء قواعد معلومات بالمحتاجين تحدث باستمرار. كيف تقوّم علاقة أغنياء السعودية بفقرائهم؟ - لا شك في أن الشعور الرابط بين الأغنياء والفقراء في هذا البلد الطيب، هو الالتزام الديني الذي يعد سمة عامة للشعب السعودي، فالإسلام يقوم على أركان خمسة أحدها متعلق بالمال بصورة مباشرة، وما زالت صفة الجود والكرم من الصفات المفضلة لدى المسلمين عموماً ولدينا في المملكة خصوصاً. رجال أعمال غير مسلمين يتبرعون أحياناً بنصف أو بكامل ثرواتهم... هل يمكن أن يحدث ذلك في بلاد المسلمين؟ - نحن نشهد نماذج رائعة في العالم الإسلامي والمجتمع المحلي لهذا النمط من رجال الأعمال، وإن لم يكن يصحب هذه الأعمال الجليلة زوابع إعلامية كالتي تصاحب أي عمل غربي ناجح كان خيرياً أو غير خيري، فالمسلمون ينطلقون من قيم راسخة في ما يقدمون، وليسوا كغيرهم في السعي لتحقيق مكاسب إعلامية أو سياسية أو اقتصادية من وراء ما يقدمونه من مساعدات (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً)، ولا سيما والإسلام حث على الصدقة في السر وعلى الوصية التي تصل إلى ثلث التركة. على رغم أهمية بناء المسجد وطباعة المصحف وتوزيع المنشورات الشرعية... لكن لماذا يغيب مفهوم التبرع لأعمال خيرية ليست بدينية صرفة، كبناء المستشفيات والمدارس والمصانع من المتبرعين؟ - إن صح مثل هذا الكلام في فترة سابقة فهو ليس صحيحاً في الوقت الحالي فالمؤسسات الخيرية اليوم تزخر بالمشاريع الطبية والتنموية والتأهيلية والتعليمية وهي أعمال أصيلة في ثقافة العمل الخيري منذ القدم، فعلى سبيل المثال: تضطلع مؤسسة الوقف اليوم بالقيام بعدد من المراكز الطبية، أبرزها مركز الأمير سلطان لجراحة المناظير في كوسوفا الذي تموله وتشغله المؤسسة بالكامل، إضافة إلى القوافل الطبية السنوية التي تسيرها المؤسسة في مناطق عملها، كما تقدم المؤسسة برنامجاً لتأهيل أكثر من 250 من الشباب السعودي لسوق العمل من خلال برنامج دورات الرخصة الدولية لقيادة الحاسب الآلي، ولا يتسع المقام لحصر الأمثلة التي تؤكد هذا الاتجاه. كيف ترى رغبة المجتمع في تقديم أعمال تطوعية؟ وفي المقابل... هل هناك جهات يمكن أن تقدم أعمالاً ذات جودة في التخطيط والإدارة للمتطوعين؟ - المؤسسات الخيرية نهجت نهج الشراكة مع القطاعات الحكومية والقطاعات خاصة في التنفيذ والتخطيط، وقدمت في هذا الإطار عدداً كبيراً من المشاريع التنموية والتوعوية، والعمل الخيري كما أنه ملك للجميع فهو كذلك مسؤولية الجميع، ولا يتصور وجود أحد يرفض الخير جملة وتفصيلاً، ومن حق كل أحد أن يجد له مجالاً يشبع فيه حاجته. برز أخيراً استبدال بعض الأحكام التعزيرية، بالعمل التطوعي الخيري داخل المجتمع، سؤالي: إلى أي مدى يمكن أن تخدم الأحكام البديلة العمل الخيري؟ - عندما نقول إن العمل الخيري هو أحد عوامل استقرار المجتمعات فإننا نعني أمثال هذه الفكرة، والأحكام البديلة نموذج واضح لما يستطيع العمل الخيري أن يسهم به في الاستقرار الاجتماعي والأمني لأي مجتمع، ومردودها يعود على المجتمع والمحكوم عليهم بالنفع، فالعمل الخيري هو الذي يخدم المجتمع وليس العكس. تعتمد غالبية المؤسسات الخيرية في مواردها المالية اعتماداً شبه كلي على التبرعات والهبات التي يجود بها المحسنون، وتكاد تهمل مفهوم الأوقاف... ما أهمية الوقف للعمل الخيري؟ وكيف يمكن تطبيقه بإتقان وتعميم ثقافته؟ - لا شك في أن الوقف هو مصدر الدعم الأكثر استقراراً، وأكثر الموارد أماناً، وفي السابق كان الوقف يمثل العمل الخيري بصورته المثلى فلم تبق مصلحة من مصالح المسلمين شرعية كانت أو مدنية إلا وغطيت بالأوقاف بدءاً بالمساجد ومروراً بالجسور والمستشفيات وانتهاءً بكماليات الحضارة كرعاية الطيور الجريحة وإطعام البهائم الضالة. وتطبيقه في وقتنا الحالي يحتاج إلى مزيد من التنظيم وسن القوانين والأنظمة الكفيلة بحفظ الوقف من شتى العوارض والتي تطمئن الواقفين إلى ضمان استمرارية أوقافهم، وبطبيعة الحال لا بد من نشر ثقافة الوقف بشكل أكبر. ما العقبات التي ترى من الضرورة تخلص المؤسسات الخيرية السعودية منها؟ - المؤسسات الخيرية كغيرها من المؤسسات تعترضها عقبات من داخلها وأخرى من خارجها، ومن العقبات الداخلية: محدودية الموارد المالية وضعف الحضور الإعلامي، أما العقبات الخارجية فمنها: - تخلي القطاع الخاص عن المشاركة في العمل الخيري. - الحملات الإعلامية التي تستهدف العمل الخيري بالتشويه والتنفير. - صعوبة التحويلات المالية. - ما تقوم به المؤسسات الدولية من محاولات إقصاء وتهميش للمؤسسات الخيرية الإسلامية واكتساح لها والاستحواذ على مواردها. ما السيناريوهات التي تتوقعها للعمل الخيري الإسلامي خلال الفترة المقبلة؟ - أصبح العمل الخيري قطاعاً ثالثاً لا يقل أهمية عن القطاعين (العام والخاص) وهو مهم جداً وحيوي في التنمية الشاملة، وعامل استقرار اجتماعي حيث يقلص الفروقات بين طبقات المجتمع، وعامل استقرار اقتصادي كبير، وخذ مثلاً: ( مع ظهور الأزمة المالية الأخيرة في الولاياتالمتحدة الأميركية عندما تم تسريح آلاف الموظفين قاموا باللجوء إلى القطاع الخيري) فكان سفينة نجاة لهم، والعمل الخيري فرصة للشباب للتعبير عن انتمائهم وولائهم من خلال المشاركة الإيجابية البنّاءة. وهو في النهاية ركن مهم من أركان النهضة الحضارية لأي مجتمع مهما كانت ثقافته.