صعب أن أنتقي قصة من القصص التي أمر بها وتمر بي خلال هذه الإجازة الصيفية غير التقليدية بأجوائها الباردة في غالب الأحيان، وأعلم صعوبة الحديث عن هذه الأجواء في ظل ارتفاع الحرارة المرافق لانقطاعات التيار الكهربائي في أحياء كثيرة من مدن المملكة بما فيها الرياض. لكني أرغب في مشاركتكم في الأمر لاسيما وأن هذه التجارب تقل الإشارة إليها لدى الحديث عن بلد مثل السويد أو مثل أمريكا بولاياتها المتعددة. لأبدأ من حيث بدأت، بالسويد، وأتناول قصة ليست خلافية تزعج السامعين.. قصة إحدى الأطفال التي تناولتها رائدة كتابة قصص الأطفال السويدية الأديبة آستريد ليندجرينAstrid Lindgren (1907- 2002)، وهي قصة الطفلة "بيبي لونغ ستوكينغز" Pippi Longstockings أو بيبي ذات الجوارب الطويلة. وسبب بدئي بها أن في نفسي وفي نفس أولادي شيئا من روح هذه الطفلة المتمردة والمسالمة في آن مما يجعلني لا أستطيع الانتقال إلى موضوع آخر قبل إشفاء الغليل من مداعباتها الذكية. على الرغم من أن كتابات ليندجرين مترجمة إلى معظم لغات العالم وتعد الكاتبة الثامنة عشرة في ترجمة أعمالها على مستوى العالم وبيعت من كتبها حوالي 145 مليون نسخة من قصص أشهرها بيبي لونغ ستوكينغز التي ترجمت إلى 60 لغة، بالإضافة إلى كارلسون على السطح، وأطفال بولبيري الستة أو الأطفال الستة المزعجين وغيرها. ولسبب أو لآخر انتشرت شخصية معينة في بلاد دون أخرى لسبب يعود إلى استحسان تلك الشعوب لها، فعلى سبيل المثال اعتبر كارلسون الشخصية الكارتونية والقصصية رقم واحد في الاتحاد السوفييتي السابق ودول شرق أوروبا، بينما شاعت قصة بيبي في بقية انحاء العالم. أما العالم العربي فلم يعرف هذه الكاتبة أو قصصها إلا في حدود ضيقة، فلم أجد لبيبي لونغ ستوكينغز إلا ترجمة دار المنى تحت اسم "جنان ذات الجورب الطويل". وقليل هو ما يعرف عن هذه الكاتبة الفذة وتأثيرها على أدب الطفل في العالم العربي. ربما للموقف النقدي من كتابات ليندجرين التي تجعل البعض يتحرج من قبولها وربما لبعض الشقة بين العالم العربي والعالم الإسكندنافي، أو هكذا نتصور. فما هي قصة آستريد أو قصة بيبي وأخواتها من قصصها الأخرى؟ تعتبر آستريد كاتبة ألهمت ملايين الأطفال حول العالم ليفكروا بطريقة مختلفة، ليفكروا لأنفسهم وليسعدوا بالطبيعة ويبحثوا عن الأمان فيها. يعتبرها نقادها محرضة للتمرد على سلطة الكبار وسلطة التربية التقليدية والتعليم والمجتمع لتصويرها شخصية بيبي في صورة فتاة يتيمة الأم في التاسعة تعيش في فترات طويلة بمفردها في بيت يسمى "فيلا فيلاكولا" في قرية ريفية هادئة مع حصانها الأبيض المنقط بالأسود وقردها "السيد نيلسون". والدها بحار جاب المحيطات وجابتها معه في فترات متفرقة وفي فترات أخرى كانا يقيمان في هذا المنزل. وهي تُصور كطفلة تستطيع تدبر أمرها وهي تعيش مما أثار استياء التربويين والجيران في القرية وأخذ كل يريد أن ينقل بيبي إلى دار لرعاية الأطفال وهي تصر أن بيتها هو بيت أطفال نظراً لأنها طفلة وتعيش فيه ثم أنها ليست بمفردها فمعها حصانها وقردها ولا تحتاج أحداً إن نقصت عليها مؤونة فلديها صندوق من القطع الذهبية الذي تركه لها والدها من سفرياته البحرية فتصرف جنيهاً كلما رغبت في شراء شيء، وهو ما جعلها عرضة لطمع بعض اللصوص الذين تعاملت معهم بكل تسامح ومحبة وجعلتهم يحتارون في أمرها، وهذا في طابع مرح. ويشارك بيبي في القصة صديقاها في البيت المجاور، تومي وأنيكا اللذان يشاركانها مغامراتها ويستمتعان بجرأتها وقدراتها الخارقة ويندهشان لمعرفتها بالعالم وشعوبه التي زارتها. لذلك فتمثل بيبي الشخصية المتمردة على السلطة المجتمعية وسلطة الكبار وسلطة التربية التقليدية، فهي لا تذهب إلى المدرسة وتكتسب تعليمها من والدها وخبرة السفر فحسب. وتتميز بيبي بأنها حرة الروح، شديدة التفاؤل، منطلقة التعبير والتصرف، تحسن الظن في الجميع مع حس عال بالعدالة والإنصاف، وما يثير إلهام الأطفال بالإضافة إلى ذلك هي قوتها الخارقة فهي تستطيع أن تحمل حصانها بيد واحدة، وفي قصة تحدت أقوى رجل في العالم في سيرك مر بقريتها بأن حملته بأثقاله على إصبع واحدة وهي تقول إن كان هو أقوى رجل في العالم فأنا أقوى فتاة في العالم، وأصبحت لازمة من مقولاتها التي تتناقلها الفتيات. وبيبي ليست الشخصية الوحيدة لدى آستريد التي تمثل الخروج على السلطة العامة فهناك ايضاً شخصية كارلسون في قصصه الثلاثة وغيره من الشخصيات التي وإن كانت محبوبة إلا أنها تنحو إلى الاستقلالية وإبداء الرأي الحر. كما تحمل شخصيات آستريد ليندجرين آفاقاً من الخيال المتناهي والذي يردد صدى خيال الأطفال المنطلق، وتعزز انطلاقه بهذه الشخصيات التي لا تخضع لقوانين البشر وإنما لقوانين الطبيعة في بيئتها المسالمة والعادلة. كنت قلقة من هذه القصة التي غزت بيتنا وأنا أبحث في ثقافة السويد قبل السفر إليها وأبحث عما يناسب الأطفال حتى تعرفت على آستريد وبيبي، ووجدت لها فيلماً كرتونياً طويلاً بالانجليزية محكم الصنع والإخراج والألحان التي جعلت من زين الشرف تتسمر أمام الكومبيوتر وكلما انتهى الفلم تطلب إعادته وبعد قليل انضم إليها أجواد أيضاً وقد ظننت أن قصة الطفلة لن تلفت نظره لكن هناك من التفاصيل ما شده كذلك وقد أخذا يحفظان كلمات الأغاني ويرددانها وهي تقول "أنا ملك نفسي، هناك سحر في كل شيء، ماذا سأفعل اليوم يا ترى؟" وهي تتنقل على ظهر السفينة تساعد طاقمها ووالدها في كل تفاصيل الرحلة كما تحاول إنقاذ والدها بعد أن سقط في البحر. وسوف أقص عليكم ماذا فعلت لمعالجة هذا القلق في الأسبوع المقبل.