للفن سيطرته وخطورته، وللدراما على وجه الخصوص تأثيرها وسحرها، بحيث لا مجال للمقاومة، مهما كانت هذه المقاومة، ومهما كانت الوسائل والأساليب التي يستخدمها بعض المتحمسين والغيورين على الدين، أو هكذا يزعمون طبعاً لم تعد الدراما، والفن على وجه العموم، مجرد وسيلة أو أداة للتسلية والترفيه وشغل اوقات الفراغ. لا، لم تعد كذلك، ولكنها اصبحت صدى حقيقياً لواقع المجتمع، ومرآة تعكس مدى تطوره أو تخلفه، انفتاحه أو تشدده، بل هي - أي الدراما - تُمارس دوراً أكثر أهمية وخطورة من كل ذلك، خاصة في هذه المرحلة الاستثنائية التي يمر بها العالم العربي، بل العالم بأسره، حيث تضطلع الدراما كأحد أهم الاشكال الفنية بقيادة المجتمع وتوجيهه وتنميطه، وذلك من خلال تأثيرها المباشر وغير المباشر، كتسليط الضوء على قضية هنا أو تهميش حدث هناك. وهنا تكمن اشكالية الدراما - والفن عموماً - لأنها تُسهم في تشكيل وصياغة وتوجيه الوعي العام للمجتمع، بل انها قد تُحق باطلاً وتُبطل حقاً، وهذا ما يحدث غالباً في الدراما العربية، بل وفي الدراما العالمية. والامثلة كثيرة جداً، على هيمنة الفن كقوة ناعمة خطيرة، وصناعة تنموية هائلة، وذراع اقتصادي كبير يدر على مستثمريه الكثير من المال والجاه والسلطة والمكانة. فقط، سأشير سريعاً للتجربة التركية في مجال توظيف الدراما في انعاش اقتصادها الذي يبحث عن اسواق جديدة في كل مكان، وقد وجد ضالته في السوق العربية التي تُعتبر الاكثر استهدافاً، سواء من الشرق أو الغرب. لقد استطاعت الدراما التركية، أن تغزو العالم، لاسيما العالم العربي، بمسلسلاتها التي تضخها بالعشرات في فضاء الاعلام، رغم كل تلك الحرب الشعواء التي شُنت، ومازالت ضد هذه الدراما. لقد استطاعت تركيا، ومن خلال تلك الدراما الجميلة أن تجعل من بوصلة السياحة الخليجية والعربية ثابتة باتجاه بلد الاناضول، ووريث الدولة العثمانية. المسلسلات التركية بما تحويه من ابهار وتشويق وتكنيك وتصوير وإخراج، ساهمت، ومازالت في دعم الاقتصاد التركي بمليارات الدولارات، نتيجة المواسم السياحية المزدحمة بالأسر الخليجية والعربية، والتي لم تكترث كثيراً لتلك الحملات المفتعلة التي تبنتها وسائل الاعلام المختلفة هنا وهناك، محذرة من هذا "التتريك" القادم من هذه البلاد العلمانية. للفن سيطرته وخطورته، وللدراما على وجه الخصوص تأثيرها وسحرها، بحيث لا مجال للمقاومة، مهما كانت هذه المقاومة، ومهما كانت الوسائل والأساليب التي يستخدمها بعض المتحمسين والغيورين على الدين، أو هكذا يزعمون طبعاً. بهذه المقدمة الضرورية - كما أظن طبعاً - أصل إلى الهدف من هذا المقال، وهو محاولة عرض سريع لأهم الانتاج الدرامي الرمضاني لهذا العام، والذي قدّر بالعشرات من المسلسلات التي انتجت خصيصاً لشهر رمضان، وهي ظاهرة موسمية مثيرة للجدل والاستغراب، ولا مثيل لها على الاطلاق في أي مكان في العالم. بجولة سريعة جداً حول ما يعرض خلال هذا الشهر الفضيل، شهر العبادة والصوم والطاعة، وكل المضامين الروحانية الجميلة، حيث سأتوقف قليلاً عند ثلاثة من أهم وأشهر الاعمال الرمضانية. المسلسل الكويتي "ساهر الليل"، والمسلسل التاريخي "عمر"، والمسلسل المصري "فرقة ناجي عطالله". لم يستطع مسلسل ساهر الليل بجزئه الثالث "وطن النهار"، والذي تدور احداثه في فترة الغزو العراقي للكويت عام 1991م، ورغم المشاهدة العالية التي يحظى بها، أن يخرج من دائرة الانتاج الدرامي الخليجي الذي يبتعد عن الاتقان في التمثيل والجدية في الطرح والحرفية في الاخراج. أما مسلسل "عمر"، والذي أثيرت ومازالت حوله ضجة مفتعلة، وحاولت جهات عدة منعه، لأسباب واعتبارات مختلفة، وجدته لا يستحق هذه الهالة الكبيرة التي احاطت به، خاصة وانه الانتاج الاضخم في تاريخ الدراما التلفزيونية. المسلسل مليء بالأخطاء التاريخية والتقنية والتمثيلية واللغوية والإخراجية، وبدى مملاً ومضحكاً في الكثير من الأحيان، كطريقة نطق بعض الممثلين للغة العربية، وكيفية التحكم في الحشود وإدارة المعارك والمبارزات وملاءمة الماكياج والملابس. مسلسل "عمر"، أثبت بالدليل القاطع بأن المشتغلين بالدراما العربية مازالوا يُصرون على أن الدراما مجرد قصة ملهمة، وليست صناعة لها ادواتها وقدراتها وإمكانياتها. بالنسبة لي اتابع باهتمام مسلسل "فرقة ناجي عطالله"، لعدة أسباب اهمها التوقيت المناسب لعرض هذا المسلسل الذي يتناول الصراع العربي الإسرائيلي خاصة في هذه المرحلة الحرجة جداً من مستقبل العالم العربي الذي يعيش "ربيعاً عربياً"، غطى كثيراً على قضية العرب الأولى، وهي القضية الفلسطينية. هذا العمل، يُعيد بعض الوهج لهذه القضية المركزية. أيضاً، وجود الفنان المصري الكبير عادل امام، بعد غياب لأكثر من 30 عاماً عن الشاشة الفضية، يشجع كثيراً على مشاهدة هذا العمل الذي يتسم كذلك بالإيقاع السريع والخفيف والشيق والكوميدي، وهي تكاد تكون "تيمات" تلازم مسيرة هذا الفنان الرائع. أما النقطة الأهم، فهي الرسالة الخطيرة التي يُمررها هذا المسلسل المهم، وهي أن الكيان الصهيوني هو العدو الحقيقي للأمة العربية، وليست تلك العداوات البينية المفتعلة بين الدول العربية. عزيزي القارئ، أنت من يملك الرغبة والقدرة والحق في تغيير الريموت كنترول، فاختر ما يحلو لك، ولكن تذكر، وأنت في شهر رمضان الكريم، بأن الدراما ليست مجرد وسيط للترفيه والتسلية والبهجة. نعم، هي كل ذلك وأكثر، ولكنها أيضاً أداة للتثقيف والتفكير والتغيير.