منذ ثلاثة أسابيع تقريباً كتبت عن اغتيال الشهيد الدكتور سمير قصير، وأشرت إلى شعور اللبنانيين بأن مسلسل الإرهاب والاغتيالات لا يزال مستمراً،وقد لا يتوقف قريباً. وللأسف كان الشعور في مكانه وطال المسلسل قائداً سياسياً لبنانياً وطنياً عربياً، مثقفاً ومناضلاً ومقاوماً للإرهاب والاحتلال الإسرائيلي، الشهيد جورج حاوي. ولا أدري إذا كان ثمة شهيد آخر سيسقط في الفترة الممتدة بين كتابة هذه المقالة وموعد نشرها!! نعم، اللبنانيون يعيشون حالة قلق وخوف ورعب. إذ ليس ثمة أسوأ من أسلوب السيارات المفخخة التي لا نعرف أين ومتى تنفجر، وبالتالي أين سيكون القتل العبثي ومن ستكون ضحاياه!! إضافة إلى أن هذا المسلسل يستهدف شخصيات وطاقات ورموزاً تحمل أهم القيم في الحياة الوطنية. فمروان حمادة الذي تعرض لمحاولة اغتيال هو صحافي في الأساس، متنّور، مثقف، وسياسي لامع وبارع وصاحب حضور مميز في الحياة السياسية اللبنانية. متميز بعلاقاته المنفتحة عربياً ودولياً. والساعي دائماً إلى وصل الجسور والحوار، والهادئ والرزين والديموقراطي، وأبرز رموز الديموقراطية والحرية والاعتدال في البلاد. وكان ثمة إجماع على تأكيد هذه القيم في شخصيته يوم استهدفه المخطط الإجرامي. ورفيق الحريري، أبرز شخصية إسلامية وطنية لبنانية عربية في تاريخ لبنان. تميّز باعتداله وأخلاقه وانفتاحه وحضوره المحلي والعربي والدولي وبتسخير كل إمكاناته لإعادة إعمار وإنماء لبنان ولحمايته من الإرهاب والفوضى. فهو صاحب الدور الأساس في اتفاق الطائف الذي أكد الاستقرار في لبنان وكان برعاية أميركية سورية سعودية. وهو صاحب مشروع إعادة بناء لبنان ووضعه على الخارطة الدولية. وهو ركن أساس من أركان تفاهم نيسان الذي عقد عام 1996م بعد مجازر قانا التي ارتكبتها إسرائيل، الذي بموجبه تمت حماية المقاومة وتشريع عملها دولياً بما مكّنها من تحقيق الانتصار، وتحرير القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية المحتلة وإطلاق العدد الأكبر من الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية. وباسل فليحان نسمة لطيفة مرت في الحياة السياسية اللبنانية. شاب واعد أكاديمي بارع، هادئ، وطني. كفاءة علمية كبيرة. طاقة عملية مهمة، مستنده العلم والأخلاق. كانت له مساهماته في مشاريع الإصلاح المالي والاقتصادي في لبنان. وكان يشكل أملاً بالنسبة إلى شباب لبنان بحضوره وسمعته وممارساته وسلوكه وشفافيته... أما سمير قصير، فهو من أبرز الوجوه العلمية والديموقراطية والسياسية والإعلامية والفكرية والثقافية في البلاد. منذ نشأته اكتسب احترام الزملاء الكبار والصغار في لبنان وخارجه. سمير قصير كان أكبر من عمره وتجربته في ما أعطاه وفي ماوصل إليه وفي ما اكتسبه من ثقة واحترام. كان صوت حرية في العالم العربي وقلم فلسطين في العالم. والقلم الناقد والرافض للسياسة الإسرائيلية، الذي جسد صوت مآذن المسجد الأقصى وأجراس كنيسة المهد وغيرها من الكنائس في فلسطين الطيبة. وصوت وجع أبنائها وإرادة ثوارها!! أما جورج جاوي، فهو تاريخ وذاكرة أربعة عقود من الزمن ونيف. كان الحاضر الدائم فيها. في الثقافة والفكر والسياسة والإعلام والفن والإبداع. في الحوار والتواصل وفي الجهاد من أجل لبنان ووحدته وانتمائه العربي وعروبته وتقدمه الديموقراطي. جورج حاوي صوت الفلاحين والفقراء والكادحين لم يتغير طيلة هذه العقود. شجاع. جريء. مقدام. مناضل. ثائر. حالم. مفكر. مبادر. متحرك. لا يهدأ. لا يرتاح. لا يريح. فرح. متفائل. صلب. هو قائد المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي عام 82. وأحد عناوين الصمود في بيروت. ثم أحد رموز الانتصار بالتحرير. وهو في الوقت ذاته رائد المصالحة في لبنان. المنتقل من هذا الموقع في الصراع ضد إسرائيل ومشاريعها ومن تعامل معها إلى موقع المصالحة معهم لطي صفحة الحرب. يومها انتقده كثيرون في المبدأ وفي التوقيت، لكن المصالحة باتت لاحقاً هدفاً وواقعاً أمام الجميع، وها هم الذين ذهب إليهم جورج حاوي في الماضي يدخلون الندوة النيابية اليوم بإرادة شعبية متصالحين مع خصوم الأمس!! وحتى اللحظات الأخيرة من حياته كان جورج حاوي يجول في مختلف المناطق. وينتقل بين لبنان وسوريا حاملاً الأفكار، طارحاً المشاريع التي غالباً ما كان يقول البعض: «أبو انيس» دائماً مستعجل!! أو غير واقعي. ربما كان الشعور في محله في حينه. لكن الحقيقة الثابتة الراسخة أن جورج لم يكن يعرف الهدوء والاستسلام. ولم يكن يعرف الجمود. هكذا نرى مشروع الاغتيالات يستهدف الطاقات الخلاّقة المبدعة وكأن المطلوب إفراغ لبنان منها وإلغاء كل رموز المصالحة والاعتدال والتواصل والفكر الحر والديموقراطي وكل من يمثل أملاً بالنسبة إلى مستقبل لبنان. ولمصلحة من ذلك؟ ومن يحمي لبنان الذي يبدو وكأنه متروك؟؟ رغم البيانات الدولية والاستنكارات والاستنفارات والانتقادات، والقرارات، ورغم وجود لجنة التحقيق الدولية في بيروت. ليس ثمة رادع. وليس ثمة هيبة. بل رهبة في كل مكان. ليس ثمة مسؤول. بل ضياع وفوضى وهذا أمر أخطر ما يمكن أن يواجهنا، فكيف إذا كان بعض المحرضين طائفياً ومذهبياً سيغرقون في لعبتهم وسيقعون ويقع معهم لبنان في ما لا تحمد عقباه من مشاكل وتوترات وثمة من يهدد بعرقنة لبنان أي بتحويله إلى عراق آخر، دون أن يعني ذلك بالتأكيد عودة إلى حرب أهلية على أرضه بل إلى مشاكل وتصفيات وعمليات قتل جماعية هنا وهناك لإضعافه وإسقاط كل ما أنجز لأن الصراع على لبنان والنفوذ فيه وفي المنطقة من خلاله، وبالتالي الصراع على سوريا قد عاد مجدداً إلى الواجهة. لبنان يدفع ثمن لعبة الأمم. وفي لعبة الأمم ليس ثمة حماية لأحد. كل شيء مشروع. وكل شيء ممكن. هل يعني ذلك الاستسلام؟؟ بالتأكيد لا. اللبنانيون مسؤولون. نعم نحن مسؤولون. لقد انتهت الانتخابات النيابية وحملت معها الكثير من الآثار السلبية والكثير الكثير من الإيجابيات في ممارسة الديموقراطية. نحن أمام مجلس نيابي جديد، وحكومة جديدة. وبغض النظر عن موازين القوى فيها، نحن مطالبون كمواطنين لبنانيين، كمواطنين، بحماية بلدنا، ومصالحنا جميعاً. بحماية أبنائنا ومستقبلهم ولا أحد يستطيع بمفرده أن يقوم بذلك. فلتكن بيننا روحية جديدة. وليكن ميثاق جديد، يؤكد الأمن والاستقرار ويضع حداً للاغتيالات. والعرب معنيون بمساعدتنا رغم كل ظروفهم ومشاكلهم ومصالحهم المتناقضة. والمجتمع الدولي معني أيضاً بذلك لكن المسؤولية الآن تقع علينا. وبين الإرهاب والفوضى والاستقرار علينا أن نختار الاستقرار بعيداً عن الانفعالات ولعبة تصفية الحسابات التي لن تؤول إلا إلى مزيد من تصفية القيادات والرموز والطاقات والقيم وبالتالي تصفية لبنان.