الاختلاف والتعددية بين البشر حقيقة واقعية مطلقة كما هي حقيقة فطرية وقضاء إلهي مرتبط باستخلاف الإنسان في الأرض وتكليفه وجوب إعمارها، وهو حاجة إنسانية دائمة لخلق التوازن والحراك الاجتماعي وإدارة عملية الصراع المولّد للتطور. والحوار هو الآلية المثلى التي شرعها الله لتوظيف الاختلاف وترشيده، وتجاوز حالات الشقاق والتمزق والفتن والصراعات التنافرية، ونبذ الفرقة وصولاً إلى جمع الكلمة ووحدة الموقف وتوحيد الصف وتعزيز لحمته الداخلية ومناعته أمام التحديات والمخاطر، وقد أكد القرآن الكريم في مواضع وآيات عديدة على قضية الحوار، وشرع له قواعد يقوم عليها ومنهجاً يسير عليه، وعرض لنماذج وأساليب من الحوار في الكثير من الوقائع والأحداث والقصص التي أوردها القرآن فيما يتعلق بحوارات الله سبحانه وتعالى مع الملائكة ومع إبليس، أو مع سائر خلقه عبر الرسل إلى أقوامهم، وفي الوقت ذاته شجب القرآن في آيات كثيرة كل توجه وعمل يرفض الحوار والإصرار على عدم القيام به لإصلاح حال الأمة. هذا التوجيه والتشريع الرباني أصبح حقيقة إيمانية مطلقة نهجاً وسلوكاً واقعياً وخياراً سياسياً استراتيجياً، وآلية عملية يقوم عليها فكر وفلسفة وأسلوب أي حكم رشيد، لهذا وفي مثل هذه الظروف الحرجة التي يمر بها اليمن وانطلاقاً مما تقتضيه المصلحة الوطنية أكدت المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية لإنهاء الأزمة التي ألمت باليمن، الحرص على حاضر اليمن ومستقبله وأمنه واستقراره ووحدته.. ووضع ذلك على طاولة الحوار الوطني، تحت سقف الثوابت الوطنية للخروج بالبلد من مستنقع الأزمات، بحوار وطني في ظل أجواء تتكافأ فيها كل أطراف الحوار من حيث القدرة والاستعداد النفسي والفكري وحرية الخيارات السياسية والفكرية المعبرة عن الاستقلالية والرؤية الوطنية الصادقة والمستقلة للقضايا الخلافية (موضوع الحوار). لقد سقط ما كان يعتقده أو يراه البعض محرماتٍ أو مقدسات فكرية غير قابلة للنقاش، وأصبح الجميع أمام خيار وطني استراتيجي وطريق واسع ومفتوح لمناقشة وبحث كل القضايا المتصلة بمستقبل الوطن وهموم المواطن، ولا مجال فيه لإغلاق أي باب من أبواب المعرفة والاجتهاد أمام المتحاورين، وتجاوز المعوقات والممانعات ونقاط الاختلاف والتباين التي أفضت إلى الأزمة التي تعيشها البلاد، وبهذا الاتفاق تكون العملية الحوارية قد تجاوزت العديد من المعوقات والممانعات الموضوعية والمفتعلة لتصل إلى المرحلة التي يتحدد مصيرها ومسارها اللاحق على موقف وسلوك وأداء وقناعة ووطنية المتحاورين وكفاءتهم في تبني مصالح الوطن، فمن خلالهم تتحقق الشروط الذاتية المكملة لنجاح الحوار. ما من شك أن لكل طرف أسبابه وحساباته ومعاييره الخاصة في طرح رؤاه وقناعاته في الحوار لكن الضرورة الوطنية تقتضي وتفرض على كل أطراف الحوار أن يضعوا في الحسبان ما قد يترتب عن الخيارات المختلفة من آثار سلبية وأخطاء ومعوقات، إلى جانب القيام بقراءة متأنية وواقعية صحيحة وناضجة لمجمل العوامل والشروط والمحفزات الداعمة لاستمرارية العملية الحوارية ونجاحها، أو تلك المُعيقة والمُنتجة للعديد من الإشكالات والتعقيدات والممانعات التي قد تعيق هذه العملية في أية مرحلة من مراحلها.. وهو الأمر الذي يُحتم على كل أطراف الحوار أن يأخذوا بعين الاعتبار مُجمل الحقائق والوقائع التي يتوجب استحضارها كعوامل ومقومات للنجاح وهم يضعون المنهج الفكري والآلية التنفيذية للعملية الحوارية. إن نجاح الحوار المرجو سيظل متناسباً طردياً مع قدرة المتحاورين على تحقيق القطيعة مع رواسب وسلبيات المرحلة التي سبقته والتحرر من جمودها الفكري وكيدها السياسي وخطابها الدعائي الإعلامي المنتج لثقافة الكراهية، وبرامجها وأهدافها السياسية الحزبية، ودوافعها العملية التي انحسرت في الغالب الأعم ضمن دائرة المصالح الذاتية والحزبية الضيقة على حساب المصالح الوطنية. وبالرغم من تسليمنا بمشروعية وأحقية كل طرف في ان يناضل ويدافع عن برامجه السياسية ومصالحه وحقوقه الذاتية والحزبية، إلاّ أن استحضار القضايا والمصالح الذاتية في مثل هذه الحالة من الحوار قد يفسده ويحوله إلى الضد من أهدافه الوطنية السامية التي يتطلع إليها المجتمع، فالحوار الوطني الناجح يشترط - بالضرورة - تجرّد المتحاورين من الحسابات الحزبية والذاتية والأنانية الضيقة. الحوار الوطني الناجح مرهون بقدرة أطرافه على تبني واستحضار المصالح الوطنية العليا المختلف حولها والتي يجب مناقشتها بحرية وشفافية بعيداً عن الأحكام والقناعات الجامدة والمسبقة، وادعاء احتكار الحقيقة والوصاية على الآخرين، وإجبارهم على التخلي عن قناعاتهم ومواقفهم، وتصوراتهم وحججهم قبل عرضها ومناقشتها، فمهمة المحاور قبل كل شيء هي البحث عن الحقيقة والاستعداد التام للتخلي عن جميع التصورات الخاصة، وتبني نقيضها إذا ما تأكد بالحُجة والمنطق صحة وسلامة وقوة الحق والمصلحة الوطنية في الرأي الآخر. إن قوة المحاور تكمن في واقعيته وتسليمه الجدلي بأن رأيه قد يكون صحيحاً يحتمل الخطأ، وبأن رأي الخصم قد يكون خطأ يحتمل الصواب، ولكن الرأي الذي سينتصر على طاولة الحوار هو ذلك الذي تسنده قواعد العقل والمنطق والعلم، ويفرض وجوده بقوة الحُجة والبرهان واستجابته لحقائق الواقع ومعطياته وقابليته للتطبيق دون تبعات وآثار سلبية. وأخيراً يمكن القول إنه لايمكن تصوّر أن أياً من المتحاورين قد يسلّم بطروحات أي طرف آخر باستخدام وسائل المناورات الخاطئة أو الابتزاز السياسي غير المشروع، أو الإكراه المادي والنفسي عوضاً عن الدليل العلمي الواقعي وعن ما تفرضه مصلحة الوطن ووحدته وأمنه واستقراره.