لا تكاد تمر على جزء من فيافي صحرائنا الشاسعة خصوصاً النفود، إلاّ ويعدد لك العارفون بأسرارها وخباياها معالم وأماكن تحمل أسماء وألقاب لرجال ونساء مثل "رجم العجوز" و"زبارة نوير" و"عرق الجمل" و"نقرة مكيدة" و"جال أبو سنون" وغيرها من الأسماء المختلفة والغريبة، وهؤلاء ليسوا إلاّ ضحايا فتكت بهم النفود في ظروف مختلفة ثم دفنوا عندها، فحملت بعد ذلك أسماؤهم ليستدل بها البدو عند تنقلهم ويحددون من خلالها الأماكن والوجهات، وعند تقصى سبب موت هؤلاء تعلم أنّه إما بسبب لدغة ثعبان أو هجوم سبع أو مرض أو قتل فيما يبقي موت آخرين لغزاً من ألغاز الصحراء وأسرارها. الموت عطشاً ويبقى الموت عطشاً من أكثر الأسباب سواء في الزمن الماضي أو الحاضر الذي يصيب المغامرين ومن تغريهم الصحراء وتستدرجهم بالدخول إلى متاهاتها، ثم تغدر بهم وتتركهم يواجهون مصيرهم المحتوم إلى أن يختاروا طريقة موتهم المفضلة مثل كل الذين يموتون عطشاً في الصحراء، حيث يفرون في لحظة يأس إلى غير ذي وجهة وقبل أن يسلموا الروح يتخلصون أولاً بطريقة لا إرادية من كل الملابس التي يرتدونها ويعلقونها على رؤوس الأشجار وأكوام الأحجار، وعلى خطوات منها يضطجعون إلى جوارها ثم يموتون بهدوء، ولأنّه غالباً لا يعثر عليهم إلاّ بعد أن تتحلل أجسادهم ويصيبها العفن فإنّه عادةً ما تحفر لهم قبور قرب المكان ويدفنون فيه، ليحمل بعد ذلك اسم من دفن فيه. أسماء وأماكن ويعدد سكان الصحراء وروادها أسماء مثل "عرقوب البقي" لأن رجلاً يلقب ب"البقي" كان عائداً من الصحراء على قدميه في يوم قائظ قبل حوالي (60) عاماً بعدما نفد الماء الذي معه وعندما اقترب من قريته في "الأسياح" نزل باتجاه القرية من "العرقوب"؛ وهو مرتفع أو حزام رملي اختفت قريته التي كان يراها من المرتفع، ثم يعود وهكذا تردد إلى أن سقط ميتاً من العطش، أمّا "رجم العجوز" فيقال أنّ امرأة مسنة لدغها ثعبان فحملها ذووها إلى معالج شعبي يبعد عنهم مسافة وفي الطريق تغلب عليها السم فماتت قبل الوصول إليه، ولأنّهم في الصحراء البعيدة لا يوجد حولهم ماء لتغسيلها ولا كفن ولا مقابر وعلى مسافة نائية من المدن والقرى وليس بإمكانهم أن يعملوا شيئاً اكتفوا بالصلاة عليها ودفنها بملابسها في المكان الذي ماتت فيه فحمل اسمها. بئر "مكيدة" وفي قصة محزنة جرت أحداثها منتصف السبعينات الهجرية تقريباً؛ ووفقاً لإحدى الروايات خرج مجموعة من الرجال الماهرين بالأعمال الحرفية من "الأسياح" وأماكن مجاورة أخرى من بوادي نفود "الثويرات"؛ لمساعدة قريب لهم في استنباط أو حفر بئر ماء في الصحراء لتكون مارد ماء للبادية، حيث كانت أغلب الأعمال المماثلة من حفر آبار أو بناء المنازل وما شابهها تتم بتكاتف وتعاون من الأقارب والجيران والمعارف دون مقابل، وبعد أن حددوا المكان المناسب المختار للحفر قسموا أنفسهم إلى ثلاث مجموعات الأولى تجمع جذوع الأشجار الضخمة من شجر "الأرطى" المجاور والذي ينمو هناك بكثرة؛ لاستخدامه في طي البئر وحجز الرمال أثناء الحفر، والثانية تكونت من تسعة رجال بينهم شقيقان نزلوا إلى العمق بين أعمال الحفر والطي، وفريق آخر يستخرج التراب الناتج عن الحفر بمشاركة صاحب البئر الذي يعد القهوة والطعام إضافة إلى ذلك، وفي احدى مراحل الحفر وبعد أن وصلوا إلى ما يقارب ال(15) متراً وبينما كان "المعزب" يتجهز لإعداد طعام الغداء ويحثهم للخروج لتناوله خرج أحد الرجال من عمق البئر لمعالجة عينه التي أصابها التراب، وما إن وضع قدمه على حافة البئر في الأعلى حتى تهدمت جوانب البئر وانهالت على الرجال الثمانية بداخلها ومنهم الشقيقان في ظرف ثانية، وبعد ذلك هرع الناجون طلباً للنجدة وامتطى أحدهم ظهر جمل انطلق فوقه إلى إحدى قرى "الأسياح" -على بعد (35) كم تقريباً- عندها صادف الجماعة في المسجد وصاح بهم مستنجداً فهرعوا إلى المكان فوق الدواب وعلى الأقدام، ووصلوا ليلاً ثم بدأوا محاولة إزاحة التراب واستمر الحفر طوال الليل في محاولة يائسة للبحث عن ناجين إلا أنّهم ومع بزوغ الشمس لليوم التالي حدث منعطف آخر في عملية الإنقاذ؛ حيث كادت البئر أن تُلحقهم بسابقيهم عندما إنهار الحفر مرة أخرى وكاد أن يقبر المنقذين، ورأوا معه ضرورة التوقف عن الحفر مكتفين بأداء صلاة الميت على المفقودين ومغادرة المكان. الأمل المستحيل ورغم مضي كل هذه السنوات، إلاّ أنّ هول الكارثة وحجم الفاجعة لا يزال حاضراً في الذاكرة يتم تناقله من جيل إلى جيل، وبقي بعض ذوي المفقودين متعلقاً بالأمل المستحيل، ومنهم بعض الأمهات اللاتي توفين في السنوات الأخيرة وهن لا زلن ينتظرن عودة أبنائهن المدفونين، حتى إنّ إحداهن ظلت سنواتها الطوال وهي -كما تقول- يخفق فؤادها كلما طُرِق باب منزلها، وذلك ربما لأنّ أحداً لم يؤكد لهن رؤيته للجثث، كما لا تزال آثار الانهيار باقية لم تطمرها الرمال الزاحفة بالكامل. روايات وخرافات واطلق على الموقع الذي حدثت به الكارثة لاحقاً اسم "مكيدة"، وبدأت تحوم حوله روايات خرافية منها سماع صيحات استغاثة تنبعث من نفس المكان في ساعات الليل المتأخرة توقظ النيام القريبين منها في حالة من الفزع، وآخرون يقولون إنّ الجمال والمواشي تصاب بالجفال وحالة من الفزع والهيجان عند اقترابها من المكان ليلاً، وهنا بدأ أبناء البادية والرعاة وكذلك المسافرون من أصحاب الرحلات وهواة "القنص" تحاشي المبيت قرب المكان والتحذير من النزول بالقرب منه. ساق صناعية ومن القصص المأسوية ما حدث قبل سنوات في موقع بالصحراء شرق "الأسياح" يطلق عليه "العطشانه" لرجل معوق ويعتمد على طرف صناعي، وأثناء توجهه إلى الصحراء وهو يقود سيارته تعطلت في هذا المكان الذي لا يبعد كثيراً، فحاول العودة مشياً على قدميه وعكازه إلاّ أنه لم يستطع تحمل ثقل ساقه الإصطناعي فتخلص منها بعد مسافة، معتمداً على العكاز، ثم بدأ يزحف على الأرض إلى أن عثر عليه ميتا في اليوم التالي وعلى مسافة حوالي ثلاثة كيلو مترات من ساقه الإصطناعية. صخور حادة وحادثة أخرى لا تقل ألماً لفتاة انسلت من فراشها ليلاً قبل سنوات وركضت بإتجاه مدينة أخرى في "القصيم" تقصد طفلها الموجود عند والده الذي انفصل عنها، وبدأ البحث عن هذه الفتاة عن طريق المواطنين والأجهزة الرسمية واستمر البحث عنها على مدى بضعة أيام دون العثور على أي أثر، حتى إنّ ذويها تمنوا أن يعثر عليها ميتة على ألاّ يكون هناك من اختطفها أو اعتدى على عرضها، خصوصاً أنّها كانت تعاني بعض الإضطرابات النفسية، وبينما كانت إحدى طائرات البحث تتهيأ للهبوط لتقل بعض الأدلاء وبمشاركة "الرياض" في مواكبة رحلة البحث؛ عثرت الشرطة أولاً على حذاء الفتاة وعباءتها، ثم تتبعت خطاها على أرض صخرية من خلال بقع الدم نتيجة طعنات الصخور الحادة في غرة الصيف، ثم عثر على جثتها متوفاة على مسافة لا تبعد ثلاثة كيلو مترات من البلدة، وتبين أنّها ركضت حافية على الصخور إلى أن خرجت عظام أقدامها. تطوير الحلول ومن المحزن أنّ الموت عطشاً لا زال يتكرر عاماً بعد آخر حتى مع وجود السيارات ووسائل الاتصال، وفق سيناريو يكاد يكون متشابهاً ويتكرر من ضحية إلى آخر مع أكثر الحالات؛ وهو تعطل السيارة أو غوصها في الرمال ليغادرها السائق باحثاً عن منقذ، وفي غمرة الهول واليأس يفقد وجهته ويظل يسير إلى أكثر من اتجاه حتى يفقد قدرته ويسقط ميتاً. ومع استمرار الحوادث التي طال بعضها أسراً كاملة تبقى آلية البحث لدينا غير فاعلة في كثير من الأحيان، وغالباً ما يعثر على جثة الضحية بعد فوات الأوان، حتى طائرات البحث مع محدودية فاعليتها عدداً وتجهيزاً غالباً لا تُدعى للمشاركة إلاّ بعد أن تفشل كل عمليات البحث الأرضي وتشارك متأخرة بعد نفاد الوقت، وفي الوقت نفسه لم نستفد أو بالأصح نفعِّل تقنية الاتصالات في المساعدة بتحديد المكان عبر الأقمار الإصطناعية وعبر شريحة جوال المفقود إذا كان خارج التغطية، فكل ما تستطيع فعله شركات الاتصالات لدينا تحديد أقرب برج تم من خلاله إجراء آخر اتصال، ليبقى في الأخير السؤال الذي يردده كل مواطن: "هل بالإمكان تزويد الشرائح بخاصية الاتصال بأرقام الطوارئ من الشرائح العادية عبر الأقمار الإصطناعية؟". علق ملابسه ورمى بمسدسه للاستدلال عليه.. ومات بجوارهما «مكيدة» قبرت ثمانية رجال منذ أكثر من نصف قرن شاب فارق الحياة عطشاَ بعد أن قطع مسافات طويلة مشياً في الصحراء