بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء لبى الأمير نايف بن عبد العزيز نداء ربه لتبدأ بعد موته ذكراه عطرة تتحدث عن نفسها من خلال أعماله الجليلة التي قدمها لوطنه وأمته . فقد ترك الأمير نايف رحمه الله لإخوانه وشعبه وأبنائه انجازات حياة حافلة في مسيرة هذا الوطن وفي سجل تاريخه المجيد. لن أتحدث هنا عن مختلف الجوانب التي تطرق إليها بعض من كتبوا عنه بعد وفاته رحمه الله فهي جوانب كثيرة ، ومجالات متعددة . لكنني سأكتب عن بعض ما لمسه هذا الوطن، وما عرفه عنه المواطن من تجارب البذل والعطاء التي أفنى فيها جهده وخبرته ورؤيته ، خصوصا رؤيته لأمن هذا الوطن التي كانت بمثابة رؤية رجل عرف كيف يدرك معنى الأمن في أسمى مجالاته وأقدس البقاع التي يجب أن ترعى فيها حرمة الأمن: الحرمين الشريفين فهو رحمه الله استطاع من خلال إداراته لملف الحج في مواسمه المختلفة ولعشرات السنين أن يختبر الكثير من مهاراته وقدراته في السهر والرعاية على خدمة ضيوف الرحمن وتوفير كل لوازم الحماية والأمن لهم عبر العديد من التدابير والخطط التي لاقت نجاحا كبيرا وقدمت تجربة غنية استفاد منها بعد ذلك كل أبناء الوطن . وحينما نجم قرن الفتنة من خلال أفعال الفئة الضالة التي أدت إلى الإخلال بالأمن عبر الأعمال الإرهابية التي لم تراع حرمة المسلمين، عرف الأمير نايف رحمه الله أن الإرهاب لا دين له . فالذين قاموا بضرب برجي مبنى التجارة في نيويورك ، والذين ضربوا أنفاق لندن ومدريد ؛ هم أيضا من قاموا بترويع الآمنين وقتل المسلمين في شوارع الرياضوجدة والمنطقة الشرقية . ولهذا كان رحمه الله يدرك إدراكا واعيا أن مواجهة تلك الفئة الضالة لا تتم إلا من خلال خطط منهجية تستصحب في وسائلها العديد من الأساليب حفظا للأمن وحقنا لدماء المواطنين والآمنين . ولهذا قامت عنايته القصوى بالملف الأمني لهذه البلاد ، والذي خطط عبره للعديد من الاستراتيجيات الناجحة في مكافحة آفة الإرهاب وتعقب عناصر الفئة الضالة ، عبر سنوات من العمل المضني والجهود الحثيثة التي سجلت نجاحات واختراقات مهمة تم من خلالها القضاء على الكثير من عناصر الفئة الضالة وتحجيم خطرهم إلى أقصى الحدود . ولقد كانت جهود الأمير نايف بن عبد العزيز رحمه الله طوال سنوات المواجهة الشرسة لتلك الفئة لا سيما بين عامي (1423ه 1426ه) التي شهدت تحديات أمنية خطيرة ، تتقدم بنجاحات باهرة ، أفلحت فيها الجهود التي بذلتها وزارة الداخلية . وإذا كانت معظم التحديات التي يشهدها العالم ، والمنطقة العربية هي تحديات ذات طبيعة أمنية في الدرجة الأولى فإن قرارات وزارة الداخلية التي لعبت دورا كبيرا في تجفيف منابع الإرهاب ؛ من خلال خطط المواجهة المادية والأمنية والفكرية ، تأتي في قلب هذه التحديات ، التي كانت ولا تزال بمثابة مؤشرات دالة على مدى قوة الدولة في القيام بواجبها في حماية مواطنيها إزاء التهديدات الأمنية التي تواجهها باستمرار. لقد استصحب الأمير نايف رحمه الله في تلك الخطط منهجية الأمن الفكري التي تتصل بتحسين شروط البيئة المؤدية إلى التطرف ، وإجراء الدراسات والبحوث الأكاديمية التي تبحث في ذهنية الإرهاب وبنيته . والدواعي التي تؤدي إلى سفك الدماء ؛ الأمر الذي أدرك عبره الجميع : أن التطرف الفكري هو الوجه الآخر لضعف العقل ، وعدم قدرته على مواجهة الأمور في ضوء العلم الشرعي ، ولهذا يلجأ المتطرفون إلى العنف بطريقة عصابية لا تميز الحق من الباطل ، تماما كالخوارج الذين كانوا (يخرجون من الإسلام كما يخرج السهم من الرمية) ، فيستحلون دماء المسلمين والمستأمنين. وهذا الضلال هو الذي يجعل من مجرد القتل والعنف وسيلة وحيدة لمواجهة المجتمع، وكذلك في العنف المتنقل الذي طال جميع مناطق العالم. ولذلك كان الأمير رحمه الله يرى أن من أهم الأسباب التي تزيل الغشاوة عن الذين غرر بهم عبر تأويلات ضالة ومفاهيم متطرفة وعنيفة للإسلام ، هو : الأمن الفكري ، ومناقشة الحجج والدعاوى التي يثيرها أفراد الفئة الضالة في ضوء النهار وعبر الحجج الشرعية والعلمية المحكمة ؛ من خلال الندوات العامة وإقامة الدورات الشرعية وإشاعة ثقافة السلم والحوار والتسامح بين جميع أفراد المجتمع وطوائفه ففي ذلك الضمان الوحيد للسلم الأهلي الذي يعصم الجميع . لقد كانت سنوات المواجهة الأمنية والفكرية مع عناصر الفئة الضالة هي الدليل الحاسم على منهجية التوازي في مواجهة تلك الفئة أمنيا وفكريا وكان من نتائج المعالجة الأمنية والفكرية لظاهرة الإرهاب أن أثمرت أمنا وطمأنينة في جميع أنحاء المملكة ، وهي نتائج شهد بنجاحها الجميع . كما كان للقرارات التي أصدرتها وزارة الداخلية بخصوص أفراد الفئة الضالة وبرامج إعادة التأهيل سبب في توبة الكثير من تلك العناصر وعودتهم الطوعية راغبين في الاعتراف بأخطائهم وما جنوه في حق هذه البلاد الكريمة . ذلك أن النظر الاستراتيجي لحلحلة ملف الإرهاب لا يقوم فقط على الترتيبات والخطط الأمنية فحسب ، بل يقتضي جهودا مشتركة في تحليل ذهنية الإرهاب ونزع كل المؤثرات التي تفضي إليه ، بالإضافة إلى رصد بداياته والغوص في مكوناته الغامضة في الأفكار والمناهج والتصورات . وربما كان في المنهج الفكري الذي اعتمدته خطة مكافحة الإرهاب في السعودية دور كبير في الوصول إلى نتائج حاسمة في تجفيف ينابيع ذلك الملف ، كما أن جامعة نايف تعتبر اليوم مركزا أكاديميا عملاقا من مراكز البحث المتقدمة في رصد هذه الآفة التي لم يسلم منها أحد في المنطقة. لقد كان المنهج السديد للأمير نايف رحمه الله يحاول اقتلاع جذور العنف والإرهاب عبر المزاوجة في أولوياته بين فهم الواقع البيئي الحاضن للإرهاب والبنيات الأولى لمكوناته قبل مواجهته بالقوة العارية . فمن أهم شروط الإدراك الواعي لذهنية الإرهاب هو الفرز العميق بين تعاطي الإرهاب كحالة فردية لدى الإرهابيين، وبين الحذر من إلحاق الضرر بذويهم على ضوء الآية الكريمة (ولا تزر وزارة وزر أخرى) لأن في ذلك حماية وتجفيف لمنابع التطرف وعزل عناصر الفئة الضالة عن جميع أفراد المجتمع. رحم الله الأمير نايف وأسكنه فسيح جناته، فقد كان رحمه الله حريصا على أمن المسلمين وحمايتهم، وتأمين المواطنين والسهر على رعايتهم، ولا تزال اليوم الجامعة التي تحمل اسمه وذكراه هي الثمرة المباركة لجهوده في تقديم خطط الأمن والحماية للمواطنين والمقيمين والمستأمنين، حرصا على دمائهم وأموالهم. * محام ومستشار