تتعاقب الأجيال جيلاً خلف آخر، وتزداد الفجوة بين كل واحد منهما باختلاف المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتقنية، مما صعّب إمكانية قبول كل فرد من بين جيلين مختلفين لطريقة تفكير الآخر، فضلاً عن إمكانية أن يحتل الشاب موقع من سبقه عمراً واقترب موعد الإحالة إلى التقاعد.. ما شكل صراعاً بين الأجيال في معظم مجالات العمل، حيث أصبح بعض كبار وقدامى الموظفين غير مقتنعين بكيفية عمل الموظفين الجدد الذين بدورهم يرون أن وجود تلك الفئة قد عطّل من طاقاتهم المتوقدة للعمل بروح شابة ومتحمسة.. "الرياض" تناقش عبر هذا التحقيق الفجوة بين الأجيال في المجالات الوظيفية من الناحية النفسية. د. الغامدي: التجديد مطلوب ولكن ليس على حساب الخبرات تعارض فكري بآمال كبيرة وفكر مشع، تحصلت "أمل" على فرصة عمل في إحدى المنشآت بعد تخرجها في الجامعة، إلاّ أنها وجدت الواقع مختلفاً عمّا حلمت به ورسمته في مخيلتها، نظراً لاتساع الفجوة العمرية بينها وبين زميلاتها اللاتي سبقنها في العمل، والتعارض الفكري بينهن، فضلاً عن نظرات استحقار منهن لها، إلى جانب التقليل من فكرها وعملها، بغية كبح جماح حماستها المتقدة نحو مستقبل أفضل بدماء جديدة تساعد المنظومة على التغيير والتجديد. وقالت: "تعرضت يوماً إلى أزمة ربو حادة أجبرتني على عدم المجيء للعمل يومها، وفي صباح اليوم التالي تفاجأت بإنذار على مكتبي من مدير القسم؛ نتيجة وشاية مغرضة من إحدى الزميلات كان هدفها إحباطي وزعزعة توازني فكريا وعمليا، ما يجعلني أعاني دوماً من تلك النميمة المغرضة من (شللية) العمل، على الرغم من أن أدائي الوظيفي يُصنّف بالممتاز في بداياتي بعد أن تفوقت على من سبقني بعشرات السنين". محاولة تهبيط ولم تكن "أريج" أوفر حظاً من "أمل"؛ فطبيعة عملها الميدانية وحماسها المُتقد جعلها تعمل لساعاتٍ طوال من دون كللٍ أو ملل، وبعد جهد يومين متواصلين تفاجأت بخطاب منع؛ وذلك لأن إحدى زميلاتها القديمات أكدت للمسؤول أن "أريج" لم تعمل أي شيء، وكانت تسبب ربكة في العمل، مبينةً أن الإثبات كان أصعب من الوشاية نفسها!. أحزاب قديمة ولغة الرفض الصامتة لأي موظف جديد امتدت لتطال الشاب "أحمد"، حيث أن طاقاته المتفجرة بالعطاء والإصرار دفعته للعمل وهو لايزال طالباً على مقاعد الجامعة ليطبق ما تعلمه مهنياً؛ بهدف اكتساب الخبرة والمهارة نتيجة التجربة، إلاّ أن "الأحزاب القديمة" في عمله كانت تعترض طريقه وتحاول التقليل من شأنه وعمله الواضح؛ نتيجة خوفهم من الطاقة الجديدة المتدفقة التي ستكشف الفرق بين قدرات كل فرد منهم، ما جعلهم يقللّون من أعماله، ويذكرون له أنه سبق لهم أن عملوا مثلما عمل منذ فترة طويلة، وأن أفكاره مكررة وقديمة، بل يطالبون مسؤوليهم بتجاهلها؛ لأنها مطروحة منذ أعوام، مبيناً أنهم عندما يرون علامات الإعجاب والتشجيع من المسئولين يحاولون التقليل منه بنظرية "تذكرني بنفسي وبشبابي"!، وكأن لسان حالهم يقول "لم تعمل شيئاً جديداً" بينما هو خلاف ذلك، مشيراً إلى أنه لا ينكر فضل بعضهم ممن مدّ له يدُ العون في بداياته ودعموه بخبراتهم نحو الأمام بعبارات التشجيع والتأييد، وتبنّوه عملياً بإنارة الطريق أمامه وتجنيبه الأخطاء. حسد النجاح وأكدت "ندى سالم" أن بدايتها كانت حماسية على الرغم من صغر سنها وقلّة خبرتها العملية، فكانت ترغب العمل في أي منشأة نسائية كبيرة ذات سمعة مرموقة، حتى ابتدأت في وظيفة أخصائية علاقات عامة في إحدى القطاعات الخاصة المهتمة بتنظيم المعارض، وبحكم عملها نجحت في تكوين شبكة واسعة من العلاقات مع المستثمرات والشخصيات الاعتبارية من القيادات النسائية؛ الأمر الذي جعل صاحب الشركة يعتمد عليها اعتماداً كلياً في التعامل مع هؤلاء؛ فبدأت تظهر بوادر "الغيرة" و"الحقد" بين الموظفات القديمات وصاحبات الباع الطويل في مجال العلاقات، ما جعلهنّ يطلقن عبارات ساخرة محاولة لتهبيط مستوى حماسها مثل "الحماس الزايد موب زين!". وأشارت إلى أنها اجتهدت وقدمت كل ما يضمن تميزها في المجال، حيث كانت تقضي ساعات طوال بعد انتهاء ساعات دوامها الرسمي لتقديم خطط تطويرية إلى جانب كيفية توطيد العلاقات مع الأشخاص المستهدفين، إلاّ أن تلك الضغوطات المستمرة والتلصص من قبل الزميلات ذوات الخبرة أجبرتها على ترك المجال والتوجه للقطاع الحكومي، حيث تعمل الآن مشرفة في قطاع التعليم وجميع من هم في هذا القطاع كبار في السن ولهم خبرات واسعة في هذا المجال نتيجة لتوقف التعيين فترة طويلة من الزمن، فكانت زحمة من التساؤلات تحيط بها "لماذا تم تعيينها مشرفة رغم أن خبرتها لا تتجاوز العام؟"، وبعض كان يعزو ما تحصلت عليه بجهدها إلى "الواسطة". وقالت: "تفاجأت يوماً بورقة على مكتبي كتبت فيها إحدى الموظفات "ما طار طيرٌ وارتفع إلاّ وكما طار وقع!"، ما جعلني أعاهد نفسي ألاّ ألتفت لأي شخص يحاول أن يكسّر مجاديفي، وسوف استمر في تطوير نفسي علمياً وعملياً ما دمت أتنفس!". تغيّر الأجيال وشددت "د. سميرة الغامدي" - أخصائية نفسية - على أن التغيير وضخ الدماء الشابة أمر مطلوب لأي منظمة، إذ لابد للجيل الناشئ أن يمنح فرصته في تطوير وتجديد الأعمال، ما يتطلب من كبار الموظفين والجيل القديم أن يستوعبوا فكرة ضخ الدماء المتجددة وطبيعة الحياة البشرية، وأن كل شيء مهما ارتفع فإنه لابد أن يأتي يوم ويبدأ نحو التنازل وينخفض أوج بريقه، مبينةً أن استمرارية الحياة مشروطة بالتغيير وقدوم أجيال وذهاب من قبلها، كما أن الكبير في السن لا يمكن أن يستمر في تقديم نفس عطاء الشاب. وقالت:"يجب أن يستوعب الطاقات الشبابية رفض كبار السن لوجودهم، إلى جانب محاولة احتوائهم والاستفادة من خبراتهم الواسعة والثمينة، إضافة إلى الرجوع إليهم في أي مشكلة تواجههم، فمن ناحية نفسية يشعر الكبير بالأمان عندما يجد أن الشباب يستعينون بهم ويطلبون مشورتهم في كل أمر قد يواجهونه، وهنا يتحول الرفض لدعم وتشجيع بطريقة ذكية من دون إجحاف حقوقهم وتاريخ منجزاتهم". وأضافت أن عدم التوافق الفكري بين جيلين مشكلة أزلية تحتاج إلى حُسن إدارة وزيادة وعي من قبل الكبار والشباب والمنشأة نفسها؛ ما يتطلب لمواجهة تلك الفجوة أن يعي كل جيل متطلبات الجيل الآخر وظروفه، ذاكرةً أن من الأخطاء التي تقع بها المنشآت هي فكرة الأفضل والأسوأ بين جيلين مختلفين، فلا يمكن مقارنة شاب بكامل طاقته وحيويته بموظف كبير تجاوز الأربعين من العمر، منوهةً أن التصالح مع النفس خاصة من قبل الكبار، ومن هم على وجه التقاعد مهم جداً، مشددةً على أن التجديد مطلوب ولكن ليس على حساب إلغاء وجود الكبار، إذ إن التجديد التكميلي هو المفترض.