بدأت صلتي الثقافية بإدوارد سعيد بكتابه «الاستشراق» الذي اطلعت عليه في بداية الثمانينات من القرن الماضي بترجمة الصديق كمال أبو ديب، وتنامت بمرور الزمن، حينما اطلعت على كتابه الأسبق «بدايات» وكتابه الكبير اللاحق «الثقافة والإمبريالية» ثم «تأملات في المنفى» فآخر كتبه «فرويد وغير الأوروبيين» الذي صدر في عام وفاته 2003م. ولا أخفي انجذابي الاستثنائي بسيرته الشائقة «خارج المكان» التي انتهى منها عام 1999 إذ قدم سعيد فيها أحد أكثر التحليلات دقة وخصباً عن بقايا الشوّام في مصر التي سكنوها بداية من مطلع القرن التاسع عشر، إلى أفول نجمهم في منتصف القرن العشرين، وبيّن أنهم كانوا أكثر قرباً من الناحية الذهنية للأقليات الأجنبية من المصريين، وهم يشكلون عالماً شبه مغلق، يغلفه قلق متواصل من الاندماج الممزوج بدرجة من التعالي. وقد تحللت نهائياً ظاهرة الشوّام في مصر بعد ثورة 1923م، التي تعتبر الحد الرمزي الفاصل لقوة الأقليات الأجنبية. ولطالما شعرت بدرجة عالية من التجاذب الثقافي مع أفكار سعيد اتفاقاً واختلافاً، فهو من الطراز الذي يفجر الأسئلة، ويتركها سابحة في السياقات الثقافية عساها تأخذ دلالتها الأخيرة عند هذا المفكر أو ذاك. كثيرا ما نظر إلى سعيد على أنه ناقد راديكالي ترك تراثاً فكرياً في أكثر من عشرين كتاباً توزعت بين الدراسات النقدية، ونقد الاستشراق، وتصحيح صورة الإسلام، والتعريف بالقضية الفلسطينية، ومواجهة خصومها حتى اتهم بأنه «بروفسور الإرهاب»، كما أسهم في إجراء تحويل جذري في طبيعة كثير من المفاهيم الشائعة، فقد كشف مصادرات الاستشراق إلى درجة يعزى إليه التسبب في انهيار الاستشراق التقليدي، كما ربط بين صعود الحركة الاستعمارية ونشأة الرواية وهو من أهم النقاد المعاصرين المطورين ل «نظرية التمثيل الأدبي» وقد صرف كثيراً من اهتمامه الفكري لمفهوم «التمثيل» فكشف تورط الرؤى في إعادة صوغ المرجعيات على وفق موقف نمطي ثابت يحيل على تصور جامد ذي طبيعة جوهرانية مغلقة، الأمر الذي أفضى إلى سلسلة من عمليات التمثيل التي يمكن اعتبارها وثائق رمزية دالة على العلاقة بين المرجع الفكري وتجلياته الخطابية، تتغلغل المفاهيم الحديثة في صلب العمل النقدي - الفكري لادوارد سعيد وتضفي عليه من خلال الممارسة الفاعلة أهمية كبيرة. ومن ناحيتي أعتقد أن مساهمة سعيد في تطوير مفهوم «التمثيل» أهم ما قدمه للنظرية الأدبية، وللدراسات الثقافية بشكل عام، وجهوده النقدية عبارة عن منظومة نقدية اكتسبت مشروعيتها الثقافية في الفكر المعاصر كونها تستعين بشبكة واسعة من المرجعيات، وتصدر عن تصور فكري شامل وتوظف الكشوفات المنهجية الحديثة وتنقب بدقة في ثنايا أشد الموضوعات والقضايا الحديثة إشكالية. أجد في عمله حول قضية «التمثيل» أي الكيفية التي يقوم بها الخطاب بتمثيل الواقع، ثم أثر ذلك «التمثيل» في صياغة وعي اختزالي وملتبس تجاه تلك الوقائع، البؤرة المركزية والخصبة في عملية سعيد، فقد برهن في كتاب «الاستشراق» على أن فلسفة الاستشراق هي «التمثيل الرغبوي» للشرق خطابياً، وهذا الأمر الذي تدفعه رغبة في إنتاج شرق يطابق مواصفات الغربي وتصوراته وبنيته الثقافية العامة أفضى إلى تركيب شرق موافق للرغبة أكثر مما هو مطابق لحقيقته وكل هذا يحدث سوء فهم يؤدي لا محالة إلى سوء تفاهم، وفي كتاب «الثقافة والإمبريالية» وسع وظيفة «التمثيل» فلم يتوقف على قضية تمثيل الرواية للعلاقة المتوترة بين الإمبريالية ومستعمراتها بما فيها من تشكيلات اجتماعية وثقافية، فحسب، إنما حلل التواطؤ بين نشأة الإمبراطورية الاستعمارية ونشأة الرواية الحديثة، وتنبثق أهمية «التمثيل» في أنه يركب صورة نمطية ومشوهة ل «الآخر» الذي هو موضوع مشترك لكل من الاستعمار والرواية، فالمستعمر والخطاب الروائي ينتجان صورة رغبوية ل «المستعمر» توافق منطومة القيم التاريخية والفنية التي ينتميان إليها، الأمر الذي يقود إلى تثبيت نوع من سوء التفاهم الذي لا يمكن إزالته إلا من خلال نقد هذا النوع من «التمثيل» وزحزحة ركائزه وكشف خباياه ومصادراته. يحتشد كتاب «الثقافة والإمبريالية» بأمثلة كثيرة على كل هذا، فهو يستعين بالخطابات التي تضفي على النصوص الأدبية معانيها ومقاصدها، وكل ذلك يتم في إطار تحليل فكري شامل متدفق وحيوي لا يعرف الاختزال ولا يمتثل للتبسيط الذي هو آفة كل عمل معرفي حقيقي، ويرتبط هذا الكتاب ومجمل أعماله بالتيار النقدي الذي يعنى بكشف الظواهر، وتحليلها، وتفكيكها، واستنطاقها، وهو تيار أفرزته الكشوفات المنهجية النقدية الحديثة، ولعل ما يتفرد به سعيد عن المجموعة الطليعية في هذا التيار مثل: هابرماس، ودريدا، وتودروف، وآلان تورين، وبورديو، كونه يترفع عن الاتصال العقائدي بمنهج معين ينغلق عليه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته. ومع أن اتجاهه العام في تحليل الخطاب يستند إلى ركائز عامة مدعومة بوجهة نظر فلسفية إلا أنه يوظف نتائج التحليلات اللسانية والسيميولوجية من جهة، والاجتماعية والتاريخية من جهة ثانية، ويمارس نقداً متواصلاً يهدف إلى تنقية المفاهيم الشائعة والتصورات الثابتة ويقوده ولع في كشف آليات الالتباس بين الثقافات التي تحدثها ظروف معينة، أو مقاصد تقوم على سوء الفهم وأحياناً سوء النية. وكثيراً ما يشير إلى أنه «عالق» بين الثقافات لا يشعر بانتماء مغلق ونهائي إلى أي منها. تفرض تحليلات سعيد نوعاً من التوقير والإجلال ذلك أنها ليست تحليلات تبسيطية شعبوية غايتها المصادرة على المطلوب، وهي تستخلص المواقف والنتائج عبر سلسلة معقدة من الاستقصاءات والحفريات، وفي عموم مشروعه النقدي لا يظهر أبداً على أنه صاحب نتائج جاهزة، وتكاد تكون إحدى أهم مهاراته المنهجية تتجلى في قدرته على مخض البيانات والمعطيات التي يشتغل عليها ثم استخلاص المضمرات الأساسية الكامنة خلف مجموعة من الأحداث والوقائع المندغمة في الأساليب والأبنية، ولهذا فإن تعويم النتائج لا يقوم على فكرة الانتشال، إنما الغوص والدفع باتجاه تكشف فيه الظواهر ما تنطوي عليه ولهذا فإنه يستعين دائماً بالخلفيات التي توجه الخطابات التي تكون موضوعاً لتحليلاته. إنه لا يجد حرجاً من أي نوع كان في أن يستعين بالتواريخ والرحلات والتوصيفات والبيانات السياسية وهو يحلل نصاً روائياً، ذلك أن النص الذي يحلله ينتظم في علاقات كثيرة مع كل مظاهر التعبير التي تزامنه فتكون إحدى الموجهات له، إلى ذلك فبراعته تكشف عن نفسها من خلال المقارنة، والمضاهاة والربط، وكشف العلاقات المستترة بين الخطابات، وضبط المصادرات والتواطؤات. moc.oohay@meharbi_halludba?