لا تدري كيف تسلّ نفسك من حزنك؟ ذلك الحزن الذي يظل يسكنك، ويتشبث بك وكلما خادعته قليلاً عاد مرة أخرى، لأنه يظهر، ويتجسد في وجه عزيز أخذته يد المنون، فراعك فراقه وأحزنك.. حينما وارينا جسد عمي في الثرى انتابني ما ينتاب الناس حينما يفجعون في أهلهم، والأعزة عليهم.. مسحت التراب، وصفقت يداً بيد وقلت: هكذا دفنا عمي..؟!! وظهر أمام عيني، وتمثل لي، وهو يملأ الدنيا نشاطاً، وعزماً وأملاً.. وظللت طيلة ليلي أعاني مما يشبه الدوار، وقد شبت النار تحت جوانحي، وتذكرت قول المهلهل وهو يرثي أخاه كليبا: كأني إذ نعى الناعي كليبا تطاير بين جنبي الشرار فدرت وقد غشي بصري عليه كما دارت براكبها البحار سألت الحيَّ أين دفنتموه..؟ فقالوا لي: بأقصى الحي دار من الصعب أن تفارق أحبتك.. من الصعب أن تدفنهم بيديك وترحل.. ولكن ما حيلة المرء، وهذه سنّة الله في خلقه: أموات في أثر أموات، وأجيال تدفن أجيالاً، ولا يبقى إلا وجه ربك. وتدفقت الذكريات في رأسي، والصور أمام عيني وقلت: يا الله.. ما بين ما بدأت أذكره منه، حتى لحظة موته صار كله حلماً..!! لقد مضى كل شيء في لمحة بصر..!! تذكرته ذلك الرجل المتدفق بالحيوية، والأمل.. كان ذا حضور اجتماعي ووجاهة بين الناس، كان نشطاً، متابعاً حريصاً مثقفاً.. يتصل بكثير من الأشياء، ويتعرف على كثير من الأشياء.. كان يخوض في السياسة، وفي المعرفة، وفي الثقافة،.. تعرفت وكنت صغيراً على مكتبته في مزرعتنا بالدرعية.. كانت تضم الكتب المتنوعة والجرائد، والمجلات، وأجهزة التسجيل والتصوير.. تعرفت على ملامح الصور الأدبية في هذه المكتبة.. بل على بعض الأدباء كالطيب صالح من خلال هذه المكتبة، حيث كان عمي يراسله في إذاعة لندن الBBC العربية، ويتواصل مع برنامجه ندوة المستمعين، وكانت بينهما مكاتبات، وكتب.. وكانت مجلة «هنا لندن» تأتي إليه تباعاً.. وكان من حسن الطالع فيما بعد أن تعرفت على الطيب صالح عن كثب حينما عينت ملحقاً ثقافياً في لندن، وتوثقت الصداقة بيننا بل عمل معنا في المجلة الثقافية.. وحينما زار الطيب صالح الرياض جمعتهما، وكان بينهما حديث ذو شجون، وتفاجأ الطيب ببعض من تلك المكاتبات والمراسلات.. وظل مفتوناً بتلك الرحلة، وبذلك اللقاء حفيا بعمي لا يفتر يسأل عنه. وحينما أقعده المرض نتيجة عملية ظهر لم يكتب لها النجاح لم يظهر جزعاً ولا فزعاً بل ظل صابراً محتسباً، وظل على تشبثه بالحياة، والناس، وبطبائعه التي كان يتحلى بها فقد ظل كما كان عليه حتى في حالة ضعفه وتعبه. ورحل ذلك الرجل الذي ركض في هذه الحياة طويلاً، وساعد كثيراً، وأعان كثيراً، كان يساعد الناس وهو في عمله، وظل يساعدهم حتى وهو خارج عمله، يساعدهم بجاهه، وأحياناً بماله إذا لزم الأمر.. رحم الله العم صالح بن حمد الناصر رحمة واسعة، فقد رحل وترك في أعيننا دمعاً وفي قلوبنا حزناً، وفي أنفسنا حسرات.. ولكنها سنّة الله في خلقه، فاللهم أسبغ عليه من فيض رحمتك، واحشره في زمرة الاتقياء الأنقياء، والصالحين من عبادك.. إنك أنت سميع الدعاء.