كان موتاً بطيئاً ، وقفت فيه أمام سرير والدتي ، ونظرت إلى عينيها وهي تتقلب وإلى أنفاسها وهي تتهدج وإلى دقات قلبها وهي تتباطأ ، حتى حانت ساعة فراق الروح للبدن ، فسكنت الحركات وبرد الجسد الطاهر ، وأصابتنا مصيبة الموت ، فحمدنا الله في الضراء كما حمدناه في السراء ، وكنت أظن نفسي اني متسلحة بسلاح الإيمان ومتترسة بالصبر بالسلوان ، وكنت أظن انني مستعدة لمواجهة مثل هذه الساعات الحاسمة بالخطط والحيل النفسية - بحكم تخصصي - على مواجهة الأمر الواقع ، ولكنني ضعفت وفشلت عندما صاحت الأجهزة معلنة توقف القلب ، أحسست بشعور غريب كالتوهان أو الأحلام وشعرت كأن خنجراً قد غرس في شرايين قلبي ، أحسست كأن القيامة قد قامت ، وان العالم بدأ ينهار ويتداعى ، وان الوجود قد تحول إلى فراغ قاتل ، وان ضياء الحياة قد حال إلى سواد خانق ، حاولت الصبر وتصبير من حولي ولكني كنت عاجزة عن أخذ ما يكفيني من النفس ، لم أصدق ان أمي لن تكلمني أو تبتسم لي بعد اليوم ، شككت بانني أحلم أو ربما أتخيل ، ولكنها الحقيقة رغم ثقلها وصعوبتها ، فقد ماتت أمي !!. **** كل شيء يولد صغيراً فيكبر ، إلا مصيبة الموت ، فإنها تولد كبيرة ثم تصغر بالإيمان بالله أولاً ثم بتقلب الليالي والأيام ، كنت أسمع دائماً ممن حولي بأن مصيبة موت الأم أصعب وأثقل على النفس من غيرها ، ولكن ليس المخبر كالمعاين ، وليس وصف الألم كالإحساس به ، فقد مرت عليّ خبرات مؤلمة من قبل كموت الأب وموت الأخ ، ولكن موت الأم شيء آخر لا يفهمه إلا من جرّب هذه الخبرة القاسية ، فالحمد لله على كل حال ، والله إني لأكتب هذه المقالة وكلي شوق لأن أتحدث مع أمي أو أجلس معها أو أحضنها ، واني لأشعر في داخلي إحساساً بالذنب والتقصير في حقها ، وعقلي لا يتوقف عن تقليب الذكريات والمواقف معها ، فماعاد للأكل نكهة ولا للنوم مذاقًا ، وتمر الساعات والزمان بعدك يا أماه ببطء شديد ، فرحمك الله يا روح الروح كم خلفت وراءك من فراغ وجراح ، لكنها أقدار الله المؤلمة التي لا ينفع معها إلا التسليم والتصبر والاحتساب ، ومرور الأيام كفيل بالسلوى والعلاج ، فسرعان ماينجبر الكسر ويطيب الجرح ويسلى الفقيد وتصفو الحياة ، فرحم الله موتانا وموتى المسلمين ، وعلى دروب الصبر والسلوان نلتقي .