يروي الشاعر عبدالله لويحان في كتابه:" روائع الشعر النبطي" أنه حدث في عهد الامام سعود بن عبدالعزيز (من أئمة الدولة السعودية الأولى) رحمه الله أن جماعة سلبوا مواشي من منطقة القصيم - وهذا حدث من مظاهر ذلك الزمن - فتبعوهم حتى أدركوهم وقد نزلوا ضيوفا على أمير قرية سميرا. طلب أهل المواشي من الأمير رد مواشيهم إليهم وأيضا ركاب الغزو فوافق الأمير على رد السلب واستثني الركاب، ولكنهم أصروا على طلبهم، فهم الأمير أن يعطيهم ما طلبوا ولكنه سمع نداء من داخل منزله فذهب يستطلع خبر النداء وإذا بها ابنته التي كانت تتابع الحوار الذي دار بينه وبين ضيوفه، فقالت لأبيها: أراك اذعنت لطلب القوم وهممت بإعطائهم ركائب ضيوفك الزابنين على الله ثم عليك؟ ثم أنشدت متحسرة: بعذر السحاب اذا تزَبَّرْ ولاهل وبعذر والي العرش لو ما سقانا أخذ القصير وداخل البيت ماحَلْ لولاه يامن جالنا مانصانا المرة الاخرى يجنّب إلى ذل ما ضاقت الدنيا عليهم حذانا تحزموا ياغوش حيث ان لكم دل لو"مرشد" حي بسيفه حمانا تستهل احتجاجها رادة احتباس المطر في سحائبه إلى تخليهم عن نجدة المحتمي بهم، وتمنحه ما للجوار من حق، وإن أخذهما لا يجوز بل يجب الدفاع عنهما اذا تعرضا لخطر، لاسيما وأن إحسانه الظن بهم هو ما دعاه للاحتماء بجوارهم، فإذا تخلوا عن نجدته اليوم تحاشاهم مستقبلا، وفي ذلك عار بين الناس، ولقد كان له الخيار أن يحتمي بغيرهم لولا حسن الظن بهم، ثم تعد تسليم ركاب ضيوفهم لخصومهم نقيصة تجلب لهم العار، وتتمنى أن لو كان "مرشد" - وربما كان جدها - بينهم ليحميهم من هذا الذل الذي جلبه لهم أبوها. وما أن سمع أبوها أبياتها ورأيها حتى عاد إلى مجلسه ودفع المواشي لأصحابها ومنع ركائب الآخرين من خصومهم. وهكذا تثني المرأة أباها عن قرار كاد أن يتخذه، وقد يكون له تبعات سيئة. وبعد مغادرة الطرفين ساوره خوف من أن يكيدوا له ويشكوه أمير القصيم إلى الأمام سعود بن عبدالعزيز في الدرعية، فأشارت عليه ابنته أن يذهب نفسه الى الامام ويطلعه على الأمر قبل أن يسعى خصومه إلى النكاية به. غادر الرجل سميراء إلى الدرعية وقابل الامام الذي غضب من تصرف الامير وأخذ يلومه، وكان يشهد الحوار بينهما رجل من جلساء الامام فقال: يا إمام المسلمين هذه همة عليا من هذه الفتاة التي قوّت من عزيمة أبيها، وبسببها سلمت ركاب ضيوفهم مبررة رأيها بما عليه زمنها من نظم اجتماعية ومكارم أخلاق، فهذه امرأة نادرة في زمننا، ولولا ما فيها من البسالة والشهامة ما انشأت تلك الأبيات وعززت توجه أبيها. سكن غضب الإمام ورضي عن الأمير وكتب لأمير القصيم بعدم معارضة أمير سميرا ثم خطب الفتاة من أبيها وتزوجها. هذا ما أورده لويحان بتصرف شديد. وأقول: لقد كان الأب بين أمرين أحلاهما مر، فهو مسؤول ومن واجبه منع التعدي وحماية الحقوق وتأديب المعتدي، وقد رد الحقوق إلى أهلها ومنعهم من أخذ ما ليس لهم لبطلان مطالبهم، وربما عنف الآخرين وأنذرهم فلم يذكر لويحان ما حدث معهم، وكان همه إبراز دور المرأة الإيجابي ومشاركتها بالرأي ووعيها بسنن زمنها. الأمر الثاني أن هؤلاء الجناة وضعوا أمرهم بين يديه (الأمير) حين أموا داره وقد وجبت حمايتهم وله أن يفصل في شأنهم بما يرى، وعليه ألا ينسى ما يترتب على تصرفه من ثناء أو ذم، وهذا يلهم الشعراء المديح او الهجاء فتسير الركبان بما أبدعوا إن خيرا فخير وإن شرا فشر، إعلام ذلك الزمن وهو الأبقى في أذهان الناس. لقد أصغى الأب إلى ابنته وأستأنس برأيها وأخذ به، وتفادى معقبات تساهله عن حماية المستجير به. من أين تعلمت الفتاة التمييز بين الأمور ووضع الحلول؟ من بيئتها ومن تكريمها من قبل مجتمعها الذي أعطاها فرصة التعبير عما بداخلها، فصقل مواهبها، ومنحها الجرأة والاقدام على قول الحق والتصرف الجميل. وذلك الجليس الذي هدأ من سورة غضب الأمام وخفف عليه من وقع الخبر، وحبب اليه شخصية الفتاة ليختارها فيما بعد زوجاً وأما لأبنائه متوسماً فيها تربية حسنة لهم. لم يندفع الجليس ليؤجج غضب الأمام. والفتاة نموذج لبنات جنسها فيما قبل مئتي سنة تقريباً ومثلما تجسد هذه الفتاة دور المرأة في نجد فإن مجتمعات الجزيرة العربية كلها كانت تشهد مشاركة بارزة للمرأة وفق متطلبات الحياة.