سيكون مشروعاً أن يتساءل القارئ الكريم، عن السبب الذي يدفع أحداً للكتابة عن فيلم "أنمي"، مر على إنتاجه ما يزيد عن خمسة وعشرين عاماً، وبالذات في عالم سريع الزخم والكم مثل عالم صناعة الأنمي والمانجا، والجواب على هكذا تساؤل يكمن في أن فيلم "قوات الفضاء الملكية: أجنحة الهونيمايز - Ōritsu Uchūgun: Oneamisu no Tsubasa" مهم على الصعيد الفني وعلى صعيد الصناعة كلها في تدشينه لأحد أهم استيديوهات الأنمي المعاصرة ونعني به "جايناكس" الذي كاد أن يغادر الصناعة مبكراً بسبب هذا الفيلم تحديداً وهو ما سنتحدث عنه في هذه المراجعة التي تحاول الاقتراب من هذا الأثر الفني المميز. منذ الوهلة الأولى وفي تجربته الإخراجية الأولى وفي الرابعة والعشرين من عمره، يبدو فيلم هيرويوكي ياماقا "أجنحة الهونيمايز"، مختلفا عما هو سائد في الصناعة، حتى في موضوعاته الكبرى التي يناقشها والتي اعتادت أفلام الأنمي ومسلسلاتها مناقشتها مثل الاغتراب والحروب وما يرتبط بها، فإن هذا الفيلم يختار شخوصه من الواقع ويحاول الاقتراب من السينما الحية وفي أبرز تجلياتها، وهنا تكمن عظمة هذا العمل في محاولته الإبداعية أن يكون فيلماً مغايراً في معالجته لحكايته التي يمكن النظر إليها من بُعد على أنها حكاية سهلة السرد والإخبار، لكن ما قدمه الفيلم في مساراته التفصيلية ينحو إلى التكثيف والتعقيد والتركيز، وكل تلك الصفات التي تميز المعالجة المتمكنة والواعية بحكايتها التي تنطوي على جوهر إنساني عميق ومتماس مع هواجس إنسان هذا العصر. "شيرو" الاسم المختصر للشاب الذي لم يستطع أن ينضم لطيران قوات البحرية بسبب تدني درجاته الأكاديمية والتي جعلته يختار قوات الفضاء الملكية للمشاركة فيها، وهي برنامج مستقبلي لمملكة الهوينمايز -في أرض موازية- تحاول من خلاله أن تصل إلى الفضاء وتستعمره لأهداف إنسانية واستراتيجية، لكن "شيرو" من خلال إدراكه للغو البروباغاندا والادعاءات السياسية، ومن خلال التوتر الذي يخيم على الأجواء من خلال الحرب الباردة بين مملكته والبلد الذي يشترك معها في حدود برية –يشار إليها باسم "الجمهورية" فقط- يبدو غير مبالي بكل ما يحدث، هو يدور في حلقة مفرغة من العمل الروتيني والتسكع مع الأصدقاء وزملاء العمل في المطاعم والملاهي والنوادي الليلة وشوارع العاصمة التي يسكن فيها. وبعد وفاة أحد زملائه في تجربة اختبار، تمر الأيام كما هي، حتى تقرر رئاسة قوات الفضاء القيام بتجربة جديدة واختيار رائد فضاء جديد، وبمفاجاة تصعق زملاءه يرفع "شيرو" يده للمشاركة، إذ ندرك نحن المشاهدين فقط ما الذي حفزه وخلق الدافعية عنده لاتخاذ مثل هذا القرار الجريء والخطٍر رغم إدراكه استخدام التجربة سياسياً في محاولة لاستفزاز للجمهورية ودفعها للبدء بحرب، إنها علاقته بالفتاة التي تحمل المنشورات التبشيرية التي تحاول إنقاذ النفس من درك الاستهلاك وجنون المادة، تلك العلاقة غيرت مفاهيم "شيرو" وجعلته يدرك معاناة العالم من خلال تدميره لعلاقاته مع الأرض ومع البشر مثلهم ومع النفس، لكن الأمور ليست بهذا التجلي والتغير المباشر في الواقع، لذا فإن "شيرو" وفي ذكاء ديناميكي للقصة يغرق قليلاً مع الشهرة التي تبدأ ترفرف من حوله كونه رائد الفضاء الأول المحتمل، لكنه سريعاً ما يشعر بالضجر من كل هذه الأضواء وينعتق مرة أخرى إلى فتاة المنشورات "ريكيوني" التي تستقبله وتؤويه في منزلها كأخ وصديق، رغم محاولة خاسرة كادت أن تبدد تلك العلاقة النبيلة، لكن طيبة "ريكيوني" تنقذ العلاقة و"شيرو" من التلوث، لينطلق "شيرو" في رحلته التي ستسجل كأول خطوة للإنسان بين النجوم، الذي يصرح في أول خطاباته مستغنياً عن خطابه الرسمي، بطلب المغفرة من البشرية ووجوب وعي معاناة العالم وإدراكها قبل فوات الأوان، ومع ظهور أول خيوط نور الشمس يغمض "شيرو" عينيه ويفتتح شريط ذكرياته الشخصية، والسجل الانثروبولوجي لأرضه الموازية وقصة حضارتها التي لا تختلف عن قصة حضارتنا التي رواها "ويل ديورانت" في موسوعته المعروفة. ما يجعل هذا الفيلم فذاً في طرحه وفي مكانته التي اكتسبها مع السنين، هو ذلك الإتقان المدهش في تفاصيله الفنية، روعة الخلفيات، زوايا التصوير، الإضاءة والظلال، واقعية الشخوص والأحداث والآلات، وهو ما يجعل الحديث عن زيارة الفنانين الذين اشتغلوا على الفيلم إلى متاحف الفضاء ومراكز الفضاء في اليابان وأمريكا حقيقة تؤكدها دقة رسوم الفيلم وجودتها الفنية والعلمية، الأمر الذي يندر الالتزام به في كثير من أعمال الأنمي التي تجنح للخيال والخيال المتطرف أحياناً، الأمر نفسه ينعكس على شخوص الفيلم وجودة تعابيرهم وحركتهم وحتى حركة الشفاه أثناء الكلام وأصوات الممثلين التي جاءت في مستوى متقدم يتناسب مع الفيلم وقصته وتقلبات أحداثه، وهو ما يؤهلنا للقول بأن ميزانية الفيلم التي بلغت 800 مليون ين تم صرفها بشكل جيد ومناسب في تقديم عمل مميز مثل "أجنحة الهوينمايز". لكن هذا لا يعني أن رحلة إنتاج هذا الفيلم كانت برداً وسلاماً، فبعد عرضه في دور السينما باليابان، لم يستطع أن يحصد شيئاً يوازي ميزانيته الكبيرة، ما دفع الاستديو إلى تخفيض ميزانيته والتوقف عن إنتاج الأفلام حتى بعد نجاحه في عدد من المسلسلات مثل "ناديا: سر الماء الأزرق" أو ما يعرف في عالمنا العربي بالماسة الزرقاء، وبعد تعافيه قليلاً استطاع الاستديو إنتاج فيلم "أوتاكو نو فيديو" لتاكاشي موري، الفيلم الذي يحاول التأريخ لظاهرة الأوتاكو – مهووسي الأنمي والمانجا – في اليابان بفيلم يمتزج فيه الرسم المتحرك بالتصوير الحي، ليتم بعدها جدولة إنتاج فيلم آخر لأجنحة الهوينمايز، لكن المشروع تم نبذه بسبب الميزانية مرة أخرى، الأمر الذي بدأ وكأنه لعنة أصابت الاستديو، لكنها أصبحت خرافة بعد نجاح الاستديو وتحقيق أرباح ضخمة من مسلسل "نيون جينيسس إيفانجليون" لهايديكي آنو عام 1995م، ليبقى وبثبات استديو "جايناكس"، الذي أسسه ستة شباب يعشقون الأنمي، خرجوا من دوائر عشاق الأنمي الخاصة (الدوجينشي)، إلى عالم شركات الإنتاج الكبرى التي لا ترحم، في سباق نحن أكثر المستفيدين منه!.