تلقيت دعوة لسيهات ، وهي قريبة جدا من الدمام تكاد تلتحم بها ..سألت مريم كيف أذهب ؟ اعطتني الوصف قائلة : دعي البحر عن يمينك .. خشيت أن أتوه ويضيع وقتي مع التزامي بوقت الدعوة. طلبت من صديقة تسكن سيهات أن يرافق سائقي سيارتها خلال عودتها من العمل .. حدث ذلك .. قبل الموعد بنصف ساعة تحسبا للطريق مضيت ، السائق يمضي وأنا أوسوس ،لا ليس هذا الطريق ، قالت مريم البحر على يميني ، أين البحر ؟؟ . ويا شيراز (هذا اسم سائقي كيني )متأكد هذا هو الطريق ، يجيبني بنعم ، وأبحث عن البحر ، على يميني .. لا شيء ولا دليل ..ولا بقايا من بقاياه ( على طريقة نزار قباني ) ..ارض صفصف جرداء ..فأين ذهب البحر ؟ هل غضب وهرب ، ربما ، فإهمال البحر واضح ، رمي النفايات .. والمجاري .. طيب إن لم يكن البحر موجوداً ، رائحته ، بعض من هوائه ، لا شيء ، وكأنه رحل منذ عصور طويلة ..وبما لم يوجد أصلا !! كان ذلك مخالفا لما درسناه ، ما أتذكره أننا درسنا في الجغرافيا أن الخليج العربي ينسحب كل مائة عام كيلومتر واحداً .. يعني انسحابا بطيئا جدا ، بمعنى لا أحد يشعر بذلك ، فكيف هرب مرة واحدة ولم يترك حتى مخلفاته ، بعضاً من أعشابه ، وشيئاً من ملحه ، بقايا أسماك ،وقواقع تذكرنا به . الميت يجدون أهله ملابسه وبعضا من كتبه وشيئاً من مذكراته . ويجدون وصايا ، وربما إرثا يتخاصون في توزيعه ، أو ديونا يرفضون سدادها . لكن هناك شخصاً كان هنا وذهب ، وترك أثرا .. بحرنا أخذ كل شيء وذهب ، طراوته ورائحته، وجلسة جميلة على شاطئه .وربما أرجل يداعبها ، ينسى هما ، ويسمح بالنظر اللا متناهي ، حيث يلتقي الأزرقان، الأفق و البحر .. أين ذهب البحر ؟ هذا السؤال لم يبق معلقا !! كنت قد رأيت مغادرته منذ زمن غير بعيد، عندما أجبر على المغادرة ، ولم يبق إلا دموع محبيه ..البيوت التي بنيت لتطل عليه أصبح قدامها شوارع وجزر وأصبحنا ندوس على جثته ، ولنتذكر قول المعري : خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد. ترى أي عالم ندوس على جسد بحرنا ،بأقدامنا وسياراتنا ،و .. و .. ..لقد قلت جزر قبل قليل ، أُقيمت على أرض كانت بحرا ،جزيرة تشبه لساناً بداخل البحر بالخبر تحتوي مطاعم عدة ، كلها مطاعم الخمس نجوم وربما أكثر . عندما غادرت أحدها ذات مساء ، التفت لاجد البحر على اليمين هناك( بح ) تبخر بعضه ، وبعضه تنهال عليه أتربة وحصى ..لم يهاجر إنما رُحّل عنوة ..وهذا الرحيل القسري لم يتح لنا وداعه ، ولم يودعنا ، لم نعد نستطيع أن نستلهم منه الحكايات، وما شهد عاشقين يودعانه حبهما ، ويضعان بعضا من دموعهما فيه . لم يبكنا البحر ، نحن لا نستحق الجمال ، ولا النظر الممتد لما لا نهاية ، ولا نوارس بيضاً ترفرف ، لا نستحق بحرا نغني له (اليامال) .. وتبحر منه سفننا لتجوب العالم شرقا وغربا .. ولا أغنية لبحار عشق رائحة البحر وركب أهواله .. لا يمنحنا من جوفه لؤلؤا .. ولا سمكا يزين موائدنا .. فقط تمنيت أن أجده أجلس عنده أودعه ، أقبل بعضا من رمله ، وأعتذر له ، عن عجزي وقلة حيلتي ، أن أشكره لانه منحني كم مرة قصة أكتبها ، وغسل روحي مرات ومرات ، أن أعلمه أني سابقى مشتاقة له ، لدفء حضنه السمح المجاني ، لتكسر الشمس على جبهته ولرفرفة النوارس عنده ... سأفتقده عندما تخنقني العبرات .. فلا أجد إلا تكسر موجة أكسرها عنده .. و(يا خليج ، يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى) ،عفوا يا سياب ، لقد قلتناه .. وبح يا بحر ...