أعود مرة اخرى إلى ما حدث في المؤتمر 158 للجمعية الامريكية للاطباء النفسيين، فبجانب المحاضرات وورش العمل واللوحات المعروضة لتجارب لشباب الباحثين، فإن هناك أشخاصاً تعرضوا لتجارب معينة، ويكونون مشهورين، تدعوهم شركات الأدوية للحديث عن تجاربهم أو الخبرات التي قد تكون مفيدة للأطباء أو العاملين في مجال الصحة النفسية، وكذلك لعامة الناس الذين يستفيدون من هذه الخبرات. واحدة من أهم المقابلات التي تمت بين الأطباء والحضور من مختلف التخصصات وكذلك أشخاص عاديين هو المقابلة التي تمت مع الفتاة التي تم اغتصابها في أكبر حديقة عامة في نيويورك (The central Park) والتي تقع في وسط المدينة الضخمة التي تعج بالملايين من البشر الذين يشبهون النمل في سرعة حركتهم وكثرتهم ودأبهم في انجاز أعمالهم.. تقوم به يومياً. في احد الايام كمن لها مجموعة من المجرمين وسط الاشجار، وسحبوها وهي تصرخ طالبة المساعدة..! ولكن كل شخص كان مشغولاً بنفسه واللحاق ببرنامج عمله أو الاسراع إلى منزله..! هذه الفتاة التي تناوب على اغتصابها عدة رجال بعد أن ضربوها وتركوها وهي تكاد تفارق الحياة.. لكن قدرة الله شاءت وتم انقاذها ومكثت فترة ليست قصيرة في المستشفى منها مدة في العناية المركزة، وبعد ذلك فترة اخرى للشفاء من اصابتها البدنية، وخرجت من آلامها الجسدية وجروحها البدنية، لكن بقي ما هو أكثر ايلاماً وهو الجرح النفسي..! حقيقة الاغتصاب وبالذات إذا كان مصحوباً بالعنف وأكثر من شخص، وكان جزء من هذا الاغتصاب هو اذلال الضحية.. وهذا عادة ما يحدث من قبل المجرمين الذين يرتكبون مثل هذه الجرائم البشعة بكل المقاييس. إن كثيراً من النساء تعرضن للاغتصاب ولكنهن يكتمن الأمر، ويعيشن مع مرارة الألم الفظيع والخوف من افتضاح الأمر، خاصة إذا كان مرتكب الجريمة قريباً للضحية، أو كان له سطوة لاتستطيع الضحية مواجهته أو التقدم بشكوى ضده.. لذلك تكتفي بأن تنكفئ على نفسها، ولا تخبر احداً عما حدث لها..! لكن الآن بدأت الجمعيات والحركات النسوية بتشجيع النساء اللاتي يتعرضن للاغتصاب للحديث بصوت عال، والتبليغ عن المجرم أياً كان وضعه.. سواء كان قريباً أو رجلاً ذا سطوة.. ففي رأيي الشخصي لا توجد جريمة اكثر ايلاماً للمرأة من الاغتصاب، فهو يظل عالقاً في نفسها ولا يبرأ ألمه النفسي من الفتاة أو المرأة مدى الحياة، وينعكس ذلك على سلوكها، وكذلك سيطرة الكآبة على حياتها، وتغير مزاجها إلى الكآبة، حتى بعد مرور سنوات فإن هذا الحادث يظل عالقاً في نفسية المرأة. نعود مرة اخرى إلى السيدة التي اغتصبت في الحديقة العامة في نيويورك، فانها بدأت علاجها النفسي بعد أن عانت من الاكتئاب المزمن، وبقيت تحت العلاج النفسي (ليس الدوائي) لفترة طويلة. وأخيراً قررت ان تتكلم فكتبت كتاباً لاقى رواجاً كبيراً وهو «نعم أنا الفتاة التي اغتصبت في الحديقة العامة بنيويورك». ودعوها في المؤتمر ان تلقي محاضرة عن معاناتها بعد الاغتصاب وكيف استطاعت أن تقاوم هذا الألم البشع نتيجة اعتداء عدة أشخاص عليها اعتداءً وحشياً كاد أن يقتلها، وهو ما كان يريده المجرمون. تحدثت وسط قاعة كبيرة تضم أكثر من الف شخص عن كيفية حدوث الجريمة وكيفية انهيارها وتفكيرها بالانتحار، وكيف انها كانت تحاول ان تخفي انها هي الفتاة التي اغتصبت، إلى أن شجعها بعض الصديقات على ان تعلن عن نفسها وكيف تحمي بقية النساء اللاتي يتعرضن يومياً للاغتصاب في الولاياتالمتحدةالامريكية. تكلمت بصدق وعفوية، وبكلام بسيط عن الألم الرهيب الذي عاشته، وكيف انها شعرت بأنها لم تعد إنسانة بل أقل من درجة حيوان. ثم كيف اصبحت الآن تثق بنفسها، وتتكلم بكل صدق وصراحة ولا تخجل من أن تقول انها هي الفتاة التي اغتصبت في الحديقة المركزية في نيويورك، وانها ضحية وليست مذنبة، وأن المذنب هو من اعتدى عليها وان المجموعة التي اعتدت عليها هم الذين يجب ان يخجلوا وان يعاقبوا على جريمتهم الوحشية، وليست هي من يجب ان يخجل.. ان قصة هذه الفتاة مثال لكل امرأة يجب ان لا تسكت عن من يعتدي عليها ويغتصبها وان لا تخشى الفضيحة أو ان يعود عليها الأمر بمردود عكسي. في العيادة مر عليّ عدد من الفتيات تم اغتصابهن وهن صغار السن وكتمن هذا الفعل البشع لأن من قام بها إما قريب من العائلة، أو انها تخشى ان هي اخبرت عنه ان تخدش سمعتها، وتصبح هي الضحية لهذه الجريمة البشعة بدلاً من أن تأخذ حقها ممن اعتدى عليها. هناك من تغلبن على هذه المشكلة وواصلن حياتهن العادية ولكن ندبة الجرح لازالت تنكأ داخل سويداء القلب، ولا تستطيع ان تحكي ما حدث لها إلا بعد سنوات من المعاناة، وربما حكت لطبيب نفسي للتفريغ أو لقاء حمل ثقيل تنوء وترزح تحت وطأته، فقررت ان تذهب لتخفف من هذا الحمل الثقيل، ويعود هذا الفعل البشع حاضراً، بتفاصيله الدقيقة..! لحظات الخوف.. الالم، الشعور بالذنب.. والأخطر من ذلك سؤالها الدائم لنفسها هل حدث ذلك الجرح الكبير الذي يجعل الفتاة تفقد أعز ما تملك وتدفع هي الثمن جراء صمتها وخوفها.. ان جريمة الاغتصاب كما تحدثت عنها هذه المرأة جريمة بشعة.. مقززة.. تجعل المرأة تكره نفسها وتكره العالم الذي ترك هذا يحدث لها ثم تفكر في الانتحار كحل أخير لمشكلتها الفظيعة والمؤلمة.. كم من فتاة بريئة ذهبت ضحية لأفكار خاطئة، والمجرم يتحرك بكل حرية فلا شيء يعيبه فهو رجل.. والرجل لا يعيبه الا جيبه كما يقولون..!