كنت إلى وقت قريب أعتقد أن إذاعات ال FM وفضائيات الأغنية مسؤولة عن انحطاط ذوقنا الموسيقي عبر بثها لأغان لا تمت للذوق الجميل بأي صلة، لا لحناً ولا كلمات ولا أداء، إلى أن استمعت إلى مداخلات الجمهور وطلباتهم الملحة لسماع هذه الأغاني السيئة، فاتضح لي أن الجمهور جزء أساسي من المشكلة وأن عملية الانحطاط الذوقي تتم بتأثير متبادل بين هذا الجمهور وبين صنّاع الأغنية ومسوقيها، حيث يؤثر كل واحد في الآخر ويفسده حتى يغرق الجميع في مستنقع القبح والبشاعة. عندما تجد مستمعاً يتكلف الاتصال بإذاعة ما ويطلب الاستماع لإحدى أغاني الفنانة شمس أو أغنية "ويش اسوي" لميريام فارس، فاعلم أنه قد ارتكب جريمة في حق الفن وساهم في استمرار موجة الأغاني الهابطة، لأن الإذاعات –قولاً وفعلاً- ليست إلا نافذة لتلبية طلبات المستمع، وهدفها مادي بحت، ولو اتفق الجميع على أن شعبان عبدالرحيم هو فنان العرب الأول فإن الإذاعات لا تملك إلا الرضوخ لهذه الرغبة وستخصص أهم أوقاتها لبث أغانيه. لذلك أرى أنه قبل البحث عن أصوات جميلة، مثلما يدّعي برنامج "عرب آيدل" وإخوانه، لابد من البحث عن الجمهور الناقد المتذوق للجمال الذي يحمل فهماً موسيقياً رفيعاً ولا يقبل أبداً "السلق" الذي يرتكبه المطربون الجدد. ولأننا نفتقد حالياً لمثل هذا الجمهور الرائع، فلابد أن نصنعه صناعةً مدروسة، وأن نربيه تربية خاصة، عبر جمع عدد كبير من الشباب والشابات وتلقينهم قسراً لروائع الموسيقى العالمية، لسيمفونيات باخ وموزارت وبيتهوفن، لمقطوعة Carmina ل"كارل أورف"، لموسيقى ياني وفانغليس، لملاحم الأوبرا الخالدة "عايدة، بحيرة البجع، وتريستان وآيزولده" ولما نتج عنها من عروض الباليه الراقصة.. لنجبر هذا الجمهور على أن يستمع بإنصات وإجلال لأغاني محمد عبدالوهاب وأسمهان وشادية وفيروز وسلوى قطريب وطلال مداح وعبدالكريم عبدالقادر، وذلك حتى يدرك أن فضاء الموسيقى والجمال أرحب وأوسع مما يسمعه الآن. وإذا فعلنا ذلك فإنني أجزم أن الفن العربي بأكمله سيتطور وسيحقق قفزة نوعية للأمام، لأن أزمتنا ليست في ندرة الأصوات الجميلة، بل في ندرة الجمهور الذوّاق، ودليل ذلك أن ساحة الغناء العربي لم تخل يوماً من صوت جميل قادر على أداء أغاني أم كلثوم كما أدتها كوكب الشرق بل ربما أفضل، وقد استمعنا لنجوى كرم وهي تغني "ليالي الأنس" بأداء يفوق أداء أسمهان لها.. ورغم ذلك فمستوى الأغاني الجديدة في انحدار مستمر. لماذا؟. لأن ذائقة الجمهور هبطت فأصبحت تقبل أي شيء، وقد اضطر المغني لمجاراة هذا الهبوط لأنه لا حياة له بدون جمهور؛ حتى لو كان جمهوراً سطحياً. وبناءً على ما تقدّم هل تتفق معي في أننا نحن كجمهور نتحمل وزر هذا الانحطاط وأننا سبب رئيس في اهتمام الإذاعات والفضائيات بالأغاني الرديئة؟. أم أنك ترى أننا ضحية؟. سواء اتفقت معي أم اختلفت فلا أشك أنك تتفق معي في أن ثقافتنا ومعرفتنا وفهمنا وذوقنا الفني والموسيقي صار متواضعاً جداً إلى حد أننا أصبحنا نطرب لهيفاء وهبي ونلاحقها في كل مكان.