تتردد هذه الأيام أنباء عن اتجاه عدد من نجوم الأغنية السعودية للإنشاد الديني الخالي من الموسيقى تحت مبررات مختلفة تتخذ من الالتزام والتعفف ستاراً لها. من ناحية المبدأ كل فنان حر في أن يقدم ما يريد بالشكل الذي يريد ولا صلاحية لأي أحد أن يفرض عليه رؤية أو شكلاً فنياً محدداً. لكن هذه الحرية تتوقف عند حد تفضيله لهذا النوع ولا يحق له أن يتجاوز ذلك فيعمل على تهميش بقية الأنواع الفنية ويصفها بما ليس فيها كما حدث مع هؤلاء المطربين الذين لم يكتفوا بإبداء رغبتهم في الاتجاه للإنشاد بل تجاوزوا الحد وهمشوا الموسيقى.. كل الموسيقى. أنا أتعاطف مع المعتزلين وأدرك أن هذا ليس موقفهم الحقيقي وأرى أن التعبير خانهم ليس إلا، فهم عندما وضعوا كلمة "موسيقى" في مقابل كلمة "الالتزام" -وكأن الموسيقى مرادف للفوضى والتهتك وعدم الالتزام!- فلا شك أنهم لا يقصدون الموسيقى بشكل عام إنما يقصدون ذلك الشكل الموسيقي المحدد الذي مارسوه في حياتهم الفنية. إنهم يحكمون على هذا الفن الجميل الرحيب انطلاقاً من تجربتهم الضيقة وفي هذا ظلم كبير لو كانوا يعلمون. وإذا أردتَ أن تعرف طبيعة الموسيقى التي اعتزلها هؤلاء فليس عليك إلا أن تستمع للأغاني العربية الرائجة هذه الأيام، ستجد أنها تعتمد على ألحان سريعة ومزعجة، وهنا لا فرق بين أغاني فنان كبير وبين آخر مبتدئ لأنهم جميعاً ينهلون من نفس النبع، ألحانهم متشابهة، فقيرة، خالية من الابتكار، وبينها وبين الجمال عشرين ألف فرسخ. ولأن مطربونا لم يتعاملوا إلا مع هذا الشكل الموسيقي الذي صممه مُلحن متواضع فقد اعتقدوا أن هذه هي كل إمكانات الموسيقى وهذه هي أجواؤها لذلك لم يتورعوا عن "التوبة" منها!. ولاشك أن هذه التوبة قد أسعدت الرافضين للموسيقى.. لكن أليس من الظلم أن نحكم عليها بسبب تجارب مريعة لملحنين هواة؟. ولماذا أحصر القضية في الملحنين؟. لأني أراهم السبب الرئيس في انحطاط الأغنية العربية، ذلك أن دورهم في صناعة الأغنية أهم بكثير من دور الشاعر والمغني، فهم من يُشيد البناء الموسيقي أو الجسر الذي سيحمل الكلمات وصوت المغني إلى أسماعنا، وإذا كان هذا البناء سيئاً ومترهلاً فلا قيمة حينها للكلمات الجميلة ولا للصوت البديع. إن اللحن هو بوابة العبور الأولى للأغنية وهو بمثابة الطبق الذي تقدم فيه الوجبة اللذيذة، ومشكلة الأغنية العربية أنها تقدم في أطباق قذرة لا تعطي مجالاً لتذوق الكلام الجميل ولا للتلذذ بصوت المغني. لذا عندما يعلن فنان أنه تاب عن الموسيقى فهو يقصد التوبة عن هذا الشكل تحديداً وليس عن الموسيقى عموماً ولن أتجنى على المطربين إذا قلت بأنهم سيعودون حتماً إلى رحاب الموسيقى عندما يعثرون على لحن جميل. لاشك أن الموضوع كبير ويحتاج إلى مقالات عديدة لتوضيح الدور السلبي الذي يساهم به الملحن السيئ في انحدار الأغنية العربية ولعلنا نستعرض ذلك مستقبلاً. لكن الآن سأتركك عزيزي القارئ مع مقطوعتين موسيقيتين بديعتين؛ الأولى هي (O! Gliki Mou Ear) للموسيقار اليوناني "فانغليس" والثانية (ADAGIO FOR STRINGS) للأمريكي سامويل باربر -وأتمنى أن تنسخ الأسماء وتضعها في اليوتيوب- ثم استمع للجمال المستحيل مجسداً في هيكل موسيقي.. وعندها اسأل نفسك: هل هذه هي الموسيقى التي اعتزلها مطربونا؟!