يبدأ الإنسان حياته محاولا أن يمسك بشيء ما بقربه، وهو عاجز، ثم يدفعه هذا إلى بذل أقصى ما يمكنه للوصول إليه، فتكون هذه المحاولات بداية الحبو، الذي تبدأ من خلاله محاولات كثيرة للوقوف، ثم للمشي، ثم للعدو، ثم لشقاوة الأطفال، فانطلاقة الشباب، فاكتمال الرجولة، ولكل شيء إذا ما تم نقصان. هذه المحاولات، التي باء كثير منها بالفشل، لم تكن لتثني الطفل، وهو بعد لما يكتمل عقله ليدرك أن المحاولات الفاشلة لا بد أن تنتهي مع العزيمة والإصرار إلى النتيجة المرجوة. وكل منا مر بهذه المرحلة، وكل منا نسيها، فلا نذكر منها شيئا، إلا ما قد يقصه علينا الوالدان والإخوة الأكبر منا سنا، والأقارب، يتذكرونها ويضحكون عليها، وقل أن يلتفتوا إلى ما فيها من درس من أهم دروس الحياة، ألا وهو أن النجاح لا يأتي من المحاولة الأولى! وهذه هي الحياة، تجارب كثيرة، تؤخذ منها دروس وعبر، ليستفيد منها الآخرون، ومع ذلك فإنه لا تنقضي دروسها، وإن كان أكثرها ثابتا لا يتغير منه وفيه إلا أشخاص المجربين. وإن كان بعض الفشل لا ينبغي أن يكون، إذ أن نتائجه مروعة أحيانا، فلو أن قائد طائرة فشل في رفعها لكانت كارثة كبيرة. مما يعني أن بعض المحاولات لا بد أن تنجح من أول مرة ، وإلا فالعاقبة وخيمة. وفهم هذا وحسن التقدير فيه يعطي المرء حكمة في تعامله مع الوقائع حتى لا تمنى بالفشل، وكل قضية لا يكون الفشل فيها هو انقطاع الحياة وخروج الروح فإن تعويضها أمر ممكن، فلا مستحيل ما دامت الروح تعمر الجسد. هذا على أن الفشل بمفهومه السائد، وهو عدم تحقق المراد، والفشل في اللغة ضعف مع جبن، وجاء في القرآن بمعناه هذا، نتيجة وسببا، فأما النتيجة ففي قوله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وأما السبب ففي قوله تعالى: (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) وفي قوله تعالى: (لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم). فالفشل والتنازع مرتبطان يقود أحدهما إلى الآخر، وكل منهما نتيجته الآخر. فإن من ضعفت قوته، وجبن قلبه خالف في الإقدام، وأمسك بزمام الأعذار، وقاده إلى العصيان، والعكس كذلك، فإن من نازع – ولاة الأمر – في الطاعة، وخالف أمر الله فيهم، وفي الاعتصام بحبله، والتعاون على البر والتقوى، فكك أوصال الأمة، وأضعف شوكتها، وأدى ذلك إلى تفرقها واختلافها، وبالتالي تضعف قوتها، وتجبن أن تواجه الحياة التي تحتاج إلى قوة وكثرة وجهاد وصبر. وهذا ما عالجته آيات الفشل التي ذكرتها آنفا. فأنت تلحظ أن الآيات جمعت بين العصيان والتنازع والفشل، وكل واحد منها لا ينفك عن صاحبه. ولو دققت النظر في حال كثير من بلاد المسلمين اليوم ، خاصة بعد ما يسمى بالربيع العربي لوجدت هذه الثلاثة متكاتفة مترابطة في الواقع. وشرح ذلك قد لا يسمح به مقص الرقيب، فيترك فهمه للبيب. فالفشل في معناه الحقيقي أشمل من مفهومه في أذهان الناس اليوم ، كما قال همفري ديفيد ( إني أحمد الله أن نجاحي في جميع مبتكراتي كان نتيجة فشلي ) وفي الحكمة قديما (الفشل هو الشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يحققه دون أي مجهود) وغير ذلك من أقوال الحكماء والعظماء في الفشل ، لكن ما يهمنا هنا هو أنهم يربطون ذلك بالنجاح في تحقيق المبتغى. فالإخفاق في تحقيق مرادك لا يعني الفشل ، بل الفشل هو أن تجبن وتضعف عن تحقيق المراد . وهذا ما يجعل مفهوم الفشل الشائع غير مخالف للمعنى الشرعي واللغوي ، فإن نتيجته عدم تحقق المراد ، فالمراد شرعا تحقق الوحدة والتكاتف والتآلف والاجتماع على الحق والتعاون على البر والتقوى ، وأن يتحقق تراص صفوف الأمة ، كالبنيان ، حتى لا تضعف قوتها ، وتذهب ريحها. والفشل ينسف ذلك كله . وهذا ينطبق على الفرد، إذ هو قوام الأمة، فمتى فشل في الوصول إلى مبتغاه من العلم والمعرفة والقوة والغنى ، ضعف فخارت قواه، وأصبح عالة على المجتمع، وجره ذلك إلى النكوص والتخاذل. وليس في كلامي هذا أي فلسفة، ولكنه ارتباط معنى بمعنى، وصفة بصفة، متى فهمنا هذا الترابط الوثيق بينها فهمنا واقع حياتنا حق الفهم، وجعلنا نصب أعيننا أن الفشل عدو لنا، يستلزم وقوع التنازع والفرقة والتناحر، والعكس بالعكس فمتى سعينا للنجاح وأردناه، وبدأنا في بناء قوتنا الذاتية والأممية فإن التنازع والتفرق عدو ذلك اللدود، وحتما إذا تنازعنا فإن الفشل سيكون حليفنا، حينها ستذهب ريحنا، وتتفرق أمتنا، ونصبح صيدا سهلا لعدونا، فما أجمل خاتمة الآية، وما أجمل وعدها (واصبروا، إن الله مع الصابرين).