يلقي الغيم ما على جيده من سلاسل تفرقع مطرا على الرصيف والناس تحت مظلة محطة الباص واقفون. هو مجبر أن يقف هنا لأن سيارته خلف كلية الهندسة التي تطل من أعلى التل مثل صقر محنط مغمض العينين. يقول: لو كانت كلية الهندسة كلية العلوم السياسية لكانت على شكل سحابة، كل يراها كما يريد: مرة في شكل أرنب كبير، ومرة في شكل قطة تلاعب كرة من الصوف، ومرة أخرى في شكل سلة فاكهة صيفية؛ فالسياسة كالنبع مرآة لكل العابرين تدلل قمرا بين الضلوع وتجرحه بالوعود. نظرتْ إليه امرأة وهي تصعد الباص وقالت: السياسة كهذا الباص، إما أن تركب، وإما أن يسير ويتركك. كانت المرأة مشغولة بقراءة كتاب في اللسانيات، لكنها ملت من انتظار الباص رقم ثمانية وأحست بالحنين إلى الصحو، وحدثت نفسها: سأركب أول باص يمر، لقد ضاع ما ضاع من عمري في انتظار الحقيقة والحب وعودة الماضي. قال آخر وهو يشعل غليونه: السياسة دم تلونه الخطابة بالكناية والحكاية والمجاز، حلوى تقدمها الشعوب هدية للشعوب. لذلك لست ضد الربيع العربي ولا معه، ولا ضد من هم معه أو مع الذين هم ضده، لكنني ضد أن يضع الأجنبي يده في جرة البسكويت الزجاجية فإنه عبثا سيحاول إخراجها. إلا أن شابا يمرجح دراجته الهوائية بين قدميه وهو واقف قال: السياسة قدرة الفرد أن يصف المستحيل للجماعة بلا لغة ويقنعهم بلا سكاكين أو ابتسامة ساحرة، لذلك أحب الاقتصاد والألعاب الأولمبية. توقف الكلام قليلا لأن عصا التجربة أوقفت عجلة الفكر عن الدوران، ولأن السياسة ملأى بالدبابيس، فالحديث فيها نوع من الألم الناعم. وتوقف المطر فجأة، وتوقف الباص رقم ثمانية أيضا، ونزل منه رجل خمسيني يحمل في يده مجلة (فورن بوليسي) ثم قال: كيف أصل إلى كلية العلوم السياسية؟ ابتسم له الأول ثم مشى من دون أن يقول شيئا إلى سيارته خلف مبنى كلية الهندسة. صاحب الغليون رفع قبعته للتحية ومشى على الرصيف شمالا متكئا على مظلته الملونة. أما الشاب فتوجه إلى الباص ودراجته النحيلة على كتفه وهو يعد نقوده المعدنية. أما أنا فعدت إلى كتابة هذا المقال في انتظار الباص الذي لا رقم له.