لا أدري كيف وجدت نفسي ذات ليلة منقطعاً عمّن حولي وأنا أسامر صفحات سِفر ضخم تجاوز عددها 1500صفحة لمؤلفه الدكتور عبدالله أبو داهش العالم المبجّل وأستاذ الأدب والنقد في الجامعات السعوديّة. وفي حقيقة الأمر لم أتفاجأ بحجم كتاب" حياة في الحياة" فالدكتور أبو داهش - كما عرفته - يسير على نهج العلماء الأولين عملا وعلما فتراه يطيل التأمل والتدقيق والاستقصاء منصفاً خصمه قبل صديقه. وبعض هذه الشمائل تجلّت بوضوح في كتابه هذا حين يورد قصة أو حادثة مرّت قبل أربعين سنة أو حتى في سنيّات ما قبل طبع الكتاب فتراه يغلّب جبلّته في الإنصاف على حظوظ النفس خاصة في مواقف شهدتُ بعضها أو عرفتُ بعض تفاصيلها وشخوصها من مجايليه. نعم أٌنسيت وقتي ومن حولي واستغرقت في رحلة ماتعة وانا أستعرض حياة ومسيرة هذا العصامي الفذّ الذي لم تثنه صعوبات الحياة وقلة المعين عن أن ينهج سبيل العلماء منذ نعومة أظفاره متسلحا بالإصرار والمثابرة حتى اصبح عالما علما، ورمزا وطنيا لم يتاجر بمواقفه ورؤاه. "حياة في الحياة" كتاب أشبه بأرشيف حياة وتأريخ مسيرة لمؤلفه بما سرد من تجارب أكاديمية وإداريّة وجهود تحقيق ونشر تراث فكري ضخم خاصة في أدب وتراث جنوب غربي بلادنا الذي تصدى له "أبو داهش" قرابة أربعة عقود. لا يملك قارئ هذا الكتاب الضخم إلا أن يجد نفسه مندمجا بين سطوره يستشعر البرد مع "عبدالله" التلميذ الصغير وهو يقطع الأودية والجبال على ظهر حماره من "تنومة" ليصل إلى أو يعود من مدرسته الإعداديّة (المتوسطة) في النماص، ثم تجدك تنتشي معه مفتخرا بنيل شهادة تفوق ، وقد تجدك تتعرّق حرجا مع المؤلف وهو يحاول تدبير ثمن ذبيحة لضيف حلّ ولا مال للضيافة، أو قد تضيق بك كما ضاقت به الحلول وهو يحاول الموازنة بين حقوق مريض ضيف في منزله، وامتحان كليّة مهم ينتظره وهو الذي لم يعرف سوى التفوق قرينا. يقول "أبو داهش" وهو يتذكّر قصة الضيف " ومما أذكره في منزلنا بحي الكليّة بالرياض.. أن حلّ دارنا ضيف يستوجب عليّ إكرامه، ولم يكن في ذات اليد شيء وانتظرت بدء دوام الإدارات الحكوميّة فلديّ اسهم قليلة في شركة الفنادق فذهبت إلى إدارتها وعرضت بيع تلك الأسهم بثمن بخس قدره 500 ريال وشريت خروفا وذبحته (لضيفي)". كلّما ضمّني مجلس مع الدكتور عبدالله أبو داهش أجده على ذات الحال من الوقار والجدية والحياء مع محدّثه مهما كان مقامه وقد كان هذا انطباعي مذ رأيته أول مرة وأنا طالب في المرحلة الثانويّة وكنت حينها قد نشرت أشياء في الصحافة فهشّ وبّش وأثنى ثم قدّم نصائح مجرّب لفتى يافع وأظن الله نفعه بها. وخلاصة القول إن مَن هذه مسيرته جدير بأن تُقرأ سيرته. **مسارات: قال ومضى: قد يمنحك المال و"الوساطة" (بضع) صفحات من جريدة (اليوم) ولكن التاريخ (غداً) لا يمنح صفحاته البيضاء إلا لمن يستحقّها..