ثروت عكاشة رجل استثنائي في سيرة الثقافة العربية، فكل ما قدمه يلخص تطلعات النهضة المصرية الثانية في اختصار المراحل، وتكوين بيئة ثقافية حاضنة لفكرة التقدم. لعل استذكاره بعد وفاته التي مرت بما لا يناسب مكانته عربيا، يستدعي وقفة عند ما تركه من منجز، وما تمثله شخصيته من رمزية جديرة بفتح تلك الملفات الملتبسة في خطاب الثقافة العربية. لعل الإشكالية الأولى في شخصية عكاشة، كونه عسكريا ساهم في ثورة يوليو، وكان قد حصل قبلها على وسام استحقاق يتعلق بالفنون الحربية من الملك فاروق، ولكنه غدا بعد الثورة وزيرا للثقافة في فترة ممتدة من 1958 إلى 1970، عدا مناصبه السياسية الأخرى، وبقي إلى اليوم حالة خاصة في تاريخ وزارات الثقافة العربية. كانت انجازاته سواء التي وضعها كترجمات ومؤلفات، او تلك التي ثبتها كمؤسسات على الأرض، تتعين بمفهوم شديد الأهمية، وهو كيفية إشادة بنية تحتية للثقافة وتجاوز المنجز الفردي إلى المنجز الجماعي. من انشاء المجلس الأعلى للثقافة إلى القصور الثقافية والمسرح الوطني ومعهد الموسيقى، وتأميم السينما، اي مدها بموارد من الدولة، ثم الاهتمام الاستثنائي بالآثار، واصدار الانسكلوبيديات والمجلات الفنية والأدبية، ومشروع الألف كتاب وترجمات المسرح العالمي وغيرها الكثير التي خدمت المثقفين والجمهور العريض حين يسرت المطبوعات بأسعار تناسب مداخيل الطلبة، لا في مصر وحدها، بل في العالم العربي. تربت أجيال من العرب على كتبه المؤلفة والمترجمة وبينها موسوعة تاريخ الفنون في العالم، والقيم الجمالية في العمارة الإسلامية وترجماته المنوعة وفي مقدمتها " فن الهوى" و"مسخ الكائنات" لأوفيد، وكلها تؤكد فكرة التمأسس الكلاسيكي. الكثير من الخطوات التي وسمت سيرة هذا الرجل، بقيت إلى اليوم ورغم ما أصاب المؤسسات الثقافية المصرية من نكبات، شواهد على سعة أفقه واخلاصه لفكرة الثقافة الشعبية منها والنخبوية. كان عكاشة شأنه شأن طه حسين، الذي استوزره ناصر، يبدو وكأنه قادم من زمن النهضة المصرية الأولى، من حيث قدرتها على تجاوز المراحل ووضع اللبنات الأولى للتمايز، ولكن تسوياته مع الناصرية كانت على قدر من الاختلاف عن طه حسين، فهو جزء من الثورة، ومن رجالاتها الذين حصلوا على تعليم متقدم ومعرفة باللغات الأخرى، ولكنهم لم يتخلوا عن فكرة الولاء أو الضبط العسكري، ولا نعرف مدى مساهمته عندما كان وزيرا للثقافة في اضطهاد المثقفين وزجهم في السجون وتطويعهم عبر الإغراء والتهديد، وحتى التضليل، للانخراط في الدعاية للسلطة السياسية. العسكر في المفهوم الحرفي للتجربة الثقافية العربية، هم المسؤولون عن خراب البنى الفكرية وتشويه مفهوم الحرية التي رفعوها شعاراً، وكان صعود نظراء ناصر والناصرية في معظم البلدان العربية، قد أسهم في تأصيل بنية الاستبداد وسلطة الزعيم والشارع الموالي له. ولعل كل تلك الحقب المليئة بالعذابات، وراء بروز التيارات الإسلامية المتشددة في العالم العربي اليوم. بيد أن هذا الخطاب الذي يلقي الأعباء على تجربة السلطة، أيا كان نوعها، كان قد تحول عند تقييم الفترة الناصرية، إلى ما يشبه المأزق المعرفي الذي يجنح إلى تبسيط أو تسهيل او تمرير كل عطوب الثقافة من نافذة ضيقة. فالثقافة لا تُقاس على مبعدة من السلطة، بل تكون السلطة في غالب الأحيان من تجليات أو تمثلات الثقافة ذاتها، وعلينا هنا ان نسأل كيف قيض لرجل كان جزءا من سلطة استبدادية، أن تقول انجازاته غير ذلك؟ من المفيد قبل كل شيء أن نرى إلى التجربة الثقافية في عهد ناصر باعتبارها امتدادا لثقافة عصر النهضة العربية، فالسلطة حسب تعبير محمد عبده ينبغي أن تكون بيد المستبد العادل، ومع ان الكواكبي نشر كتابه " طبائع الاستبداد" في مصر يوم قدم اليها بحثا عن الحرية، وكانت فكرة الدستور والقانون تتردد في أدبيات الأفغاني وسواه، بيد ان تلك الأدبيات كانت تخص مرحلة مقاومة الولاة العثمانيين، وفي مقدمتهم عبد الحميد أشد الأتراك ظلما. بيد أن الثقافة المدينية التي حاولت التشبه بالغرب في مصر على عهد محمد علي وسلالته، كانت انتقائية، فليس هناك تراث تركه جيلان من مثقفي ذلك العهد، ما يساعد قارىء تلك المراحل على التثبت من مساهمة المثقفين في نشر وعي حتى بين النخب، يتعلق بكيفية تحقيق مجتمع يخرج من بنية الاستبداد، على النحو الذي انشغل فيه المفكرون والفلاسفة في عصر التنوير الغربي وما لحقه. فقد كرس المثقف الغربي إلى اليوم، جل جهده في التأمل بالمنظومات المجتمعية والقوى الروحية التي تؤدي الى قمع الحرية وبناء الذات الفردانية، ومعنى السلطة وكيفية تجليها اجتماعيا، ومعوقات تحرر الإنسان من العبوديات. صحيح ان العرب لم يمروا بمراحل الثورة العلمية والصناعية والفكرية التي شهدها الغرب، ولكنهم اختاروا منها ما يناسب تراثهم، فالمجتمعات العربية وبينها مصر بقيت مجتمعات أبوية تنظر إلى السلطة باعتبارها الأب الراعي الذي لا يحاسب على نوع إدارته البلاد والعباد. عصر الانقلابات العسكرية، كان عربيا بامتياز، وهو عصر الجماهير، فالزعيم غدا ابن الشعب، يستمد سلطته منه بالخطاب والشعارات وبانجازات كانت معرضة باستمرار إلى عصف معاركه الداخلية والخارجية. لم يكن وعي المثقف بمفهوم الحرية والجمال وحقوق الفرد ومواطنته، خارج هذا الإطار الجامع، ولا يملك المثقف المعارض تصورات واضحة للبدائل، فهو يرفع الشعارات الثورية ذاتها. كان ثروت عكاشة ابن المرحلة الناصرية التي اشتغلت على الثقافة ضمن مستويين مهمين، مستوى تعميم التعليم على أبناء الفقراء والقرى والبلدات البعيدة، ومستوى انشاء المؤسسات الثقافية وتضييق الهوة بين ثقافة النخبة والناس، وهي منجزات مشهودة، ولكنها قابلة للزوال، لأنها رهن بوجود الزعيم او الفرد الذي يمثله في عالم الثقافة. ما بين خيار طه حسين الليبرالي، وثروت عكاشة الثوري، بقيت مصر ومعها العالم العربي إلى اليوم أسيرة تلك المعادلة الانتقائية حيث منظومات المعرفة وخطاب الثقافة الطليعية لا يصمدان طويلا أمام الزمن، مادامت تلك البلدان محكومة بآلية مجتمع حاول نجيب محفوظ مقاربة عيوبه في ثلاثيته، فطعنه فتى جاهل كان طفلا أو لم يولد بعد في عهد ثروت عكاشة الزاهي بالثقافة والمحتفي بها زهوه بالعسكر وزعيمهم.