ثمة نغمة شاذة وغير لائقة لا زالت تتردد في بعض وسائل الإعلام في الدول التي سقطت أنظمتها خلال الشهور الماضية، ورغم أنها صادرة من جهات وأشخاص لهم مواقف معينة وتوجهات معروفة، إلا أن فحواها اتهامات وأوصاف ونعوت تجاه شعوب الخليج، والتقليل من قيمة موروثهم ناهيك عن الانتقاص من إمكاناتهم وقدراتهم، بحيث إن الأمر لم يعد يقتصر على المواقف السياسية بل تجاوزها ليلامس الجانبين الثقافي والاجتماعي. جاءت تلك الإساءات لتكرس نظرة الاحتقار والازدراء والدونية تجاه أهل الخليج، فضلًا عن اتهامهم بالتخلف والرجعية. إن أولئك العرب مدعوون إلى إعادة توصيف هذه العلاقة، ومحاولة إيجاد أرضية مشتركة، تأخذ في الاعتبار الاختلافات الثقافية والاجتماعية بين الشعوب وإن انتمت لحضارة واحدة، ومحاولة كلّ منهما فهم الآخر دون الانطلاق من توجهات أيديولوجية أو سياسية هذا السلوك يكشف عن مسألة التناقض القابع في القاع السوسيولوجي في الإنسان العربي، وإن كانت هي في الحقيقة ليست سوى آراء وانطباعات فردية متراكمة تضخمت بمرور الزمن منذ طروحات اليساريين والقوميين والماركسيين والتي خلقت الشرخ في نسيج المجتمعات العربية، فكانت بمثابة حجر عثرة في سبيل الاندماج والتلاقح والتعايش. هذه الترسبات لا تؤمن بحقائق الأشياء رغم وضوحها، بل تعيش في حالة اصطدام وصراع ما بين ما تريد أن تسمعه، وبين ما هو موجود على الأرض، ما يجعلها تغرق في بؤس لا مثيل له، ثم سرعان ما تخلد في الأذهان، ويتناقلها جيل عن جيل،وبالتالي يصل لقناعات من الصعب تغييرها ، ليصبح حائرا ومترددا ما بين الاعتراف بالحقيقة، أو المكابرة والتمسك بمرئياته، فيصاب بحالة الانفصام(الشيزوفرينيا). ولذا فالخطورة هنا تكمن في انه يتمخض عنه سلوك يسود المجتمع بشكل دائم فلا يلبث أن يتسم بالاعتيادية وكأنه سليل الواقع. قد تبدو هذه الصورة مسرفة في التشاؤم، وقد لا تكون، وإن كان ذلك ليس مهماً بقدر ما أنها فضحت شعوبية تلك الآراء ومدى انحطاط تلك الاتهامات والمغالطات إن أردنا الصراحة لاسيما أنها التي لا تستند على أدلة أو دراسات. هذه الحالة التي تنزع للتهكم والسخرية والانتقاص من شعوب ربما كانت مبررة في مرحلة من المراحل عندما كان أهل الخليج اقل وعياً وعلماً وفهماً ، وإن كنا ضد التجريح والإساءة والتحقير لأي من كان، ولا يجوز سلب حقوق الآخرين، إلا أن المقصد هنا هو كشف سر ملامح تلك الحالة القابعة في الذات، وهي ما فتئت تستعر شعلتها كلما جرت أحداث ونشبت اشتباكات . بيد أن هذا الأسلوب لا يساعد حتما على تواصل الشعوب ويؤدي إلى نوع من الانشطار والعزلة والتقوقع. لغة اقل ما يقال عنها إنها تنتمي لعقلية مريضة وحاقدة وحاسدة ، وغير قادرة على الاستيعاب بحقيقة تطور ونمو المجتمع الخليجي، والتغير الملحوظ في نمطه التفكيري وتوسعه الإدراكي مقارنة بمجتمعات سبقته احتكاكاً وتجربة وخبرة بفعل معطيات تاريخية ، ما دفعها لرفض كل ما يطرح من معلومات ومقارنات ترجح تفوقه وتميزه كمجتمع عن سواه. في الخليج، اليوم، أجيال جديدة أكثر وعياً وفهماً وتعقيداً من الأجيال المغربية والمشرقية. أجيال أكثر اتصالا بالعالم ومعرفة به واحتكاكاً وتعاملًا مع آخر ثوراته التقنية، لاسيما في ميدان المعلوماتية الالكترونية. وللمضي بمزيد من الشفافية ومن باب الإنصاف نقول إن الفارق التنموي بات ملموسا ومتسعا ما بين المجتمعات الخليجية، ومجتمعات المشرق والمغرب، ومرد ذلك ، إذا ارتهنا للموضوعية، يعود إلى أن النظام الخليجي أخذ الليبرالية الاقتصادية الغربية بالقدر الذي ينسجم مع تقاليده واعتقاده الديني، فوفر لمواطنيه حرية الاستثمار والربح وحرية السفر وانتقال رؤوس الأموال، في حين تسبب مبدأ الاقتصاد الشيوعي الذي أخذت به معظم المجتمعات المشرقية والمغربية، في تبديد فرص الاستثمار المحلي وقتل المبادرة الفردية، وبالتالي ساهم هذا التخلف الاقتصادي في تدهور المستوى الاجتماعي والثقافي لهذه المجتمعات. كان التحول الفعلي في فكر شعوب الخليج جاء مع أحداث حرب الخليج، فكانت كالصاعقة التي أيقظت شعوب تلك الدول من سباتهم العميق، وتمخض عنها انفتاح إعلامي وثقافي، واهتمام بالقضايا السياسية ومتابعة الأحداث. طبعاً الخليجيون استثمروا في هيكل التنمية الأساسية، من طرق وخدمات ومشاريع، غير أن الاستثمار الأهم كان في الإنسان الخليجي وإن كان الطموح أكبر إلا أن الإنسان الخليجي اثبت حضوره وجدارته وقدرته، بدليل أننا أصبحنا نقرأ عن أسماء لخليجيين وخليجيات، حصلوا على جوائز عالمية في مجالات علمية من مراكز مرموقة، رغم الانزعاج حقيقة أنه في حالة تم الاعتراف بذلك، فإنه يُنسب إلى النفط وليس بكيفية استغلال موارده. وفي هذا السياق، تسعفنا الذاكرة لنستحضر قضية المركز والأطراف في عالمنا العربي، فمصر والهلال الخصيب، كما كان يطلق عليهما لا شك، أنهما كانا مركز المشرق العربي في صنع تاريخنا وثقافتا، ، لكن الإشكالية تكمن في استمرار هذا الاعتقاد لدى البعض بهذه المركزية وهذه الهيمنة. والتاريخ يخبرنا بأن انجلترا كانت مركز الثقافة الانجلوسكسونية، في حين كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية آنذاك مجرد طرف تابع لها، إلا أن بقاء الحال من المحال، ولا ننسى أثينا التي بقيت لفترة المركز الوحيد للثقافة الغربية القديمة، لكنها لم تعد شيئا يذكر على الساحة الدولية. على أي حال، تبقى جدلية مسألة المركز والأطراف مستمرة، وقد تكون ذات مصداقية موضوعية في ظرف تاريخي معين، وفق رؤية بعض المفكرين إلا أن معيار هذا المفهوم قد تغير لاسيما في عصرنا الراهن استناداً إلى حقيقة تغير الأشياء وعدم ثباتها، فقد أصبحت صناعة المعلومة وتشكيلها ضمن منظومة الثقافة الإنسانية هي المعيار الجديد لمعرفة تميز وتفوق شعب عن سواه. إن أولئك العرب مدعوون إلى إعادة توصيف هذه العلاقة، ومحاولة إيجاد أرضية مشتركة، تأخذ في الاعتبار الاختلافات الثقافية والاجتماعية بين الشعوب وإن انتمت لحضارة واحدة، ومحاولة كلّ منهما فهم الآخر دون الانطلاق من توجهات أيديولوجية أو سياسية لأن النتيجة ستكون التباعد لا التقارب، هذا إذا أرادوا فعلًا أن يقطعوا الطريق على من يتربص بهم، فهل يعالجون الشرخ؟!..