التأريخ بحر عميق مليء بالتجارب، الدروس والعبر من حياة البشرية لمن أراد أن يسبر أغواره، لذلك يعتبر من المعارف الإستراتيجية التي تشكل جزءاً مهماً من ثقافة الإنسان. وتعتبر دراسة التأريخ من المواضيع الأساسية في مدارس تخريج القادة، لأنه خزين التجربة البشرية، ودليل على مواطن النجاح والفشل ولذلك تشكل دراسته وسيلة من وسائل معرفة السنن الربانية التي تحكم حياة البشر. ولتلك الأهمية قال شوقي رحمه الله: اقرأ التأريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر ومن الأمثلة على أهمية العبر من التأريخ ما قرأته عن السومريين، أقدم المهاجرين من جزيرة العرب الذين سكنوا جنوب العراق على ضفاف نهر الفرات وبنو أول حضارة بشرية. تقول الروايات التأريخية التي تركوها موثقة على ألواح الطين بأنهم كانوا يقدسون مهندسي الري ويمنحونهم الهبات المالية والمكانة الاجتماعية التي تفوق منزلة الحكام لأهمية العمل الذي يقومون به. فقد كانت المشكلة الأكبر التي تهدد سكان جنوب العراق آنذاك هي فيضانات الأنهار المتكررة التي تغرق الأرض، تهلك البشر وتدمر المحاصيل الزراعية، لذلك فقد كان ولا بد من إيجاد الوسائل التي تقي الإنسان تلك المخاطر. فقام المهندسون بتطوير السدود ومشاريع الري التي تساعد في خزن المياه وتحمي المدن والمزارع من الفيضانات المتكررة، وبسبب أهمية هذا العمل فقد منحوا أولئك المهندسين مكانة فريدة في المجتمعات وقدموا لهم الهبات المادية تشجيعاً لهم واعترافا بالفضل. ثم جاء الإسلام الذي جعل طلب العلم فريضة وكرم العلماء بأن جعلهم ورثة الأنبياء، وأخبرنا الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأن الله يُنزل ملائكة السماء إلى الأرض لكي تفرد أجنحتها لطالب العلم. وجعل السعي في طلب العلم من أكبر الجهاد والإنفاق على مؤسساته أولى الأولويات. ولذلك انتشرت المدارس ومعاهد العلم، وأنشئت الأوقاف التي تنفق على طلبة العلم ومعلميه، وتفرغ خيرة أبناء الأمة في سبيل ذلك، ومنحت الأمة العلماء مكانة لم تمنحها غيرهم. و من الأخبار التي تدل على ذلك أن هارون الرشيد بينما كان واقفاً يخطب الناس أثناء زيارة له إلى خراسان إذ نادى المنادي بوصول عالم أهل الحديث التابعي الجليل عبدالله بن المبارك، فانفض الناس عن الرشيد وركضوا وراء ابن المبارك حتى تطاير الغبار وتقطعت النعال كما تقول الرواية، لدرجة أن زوجة الرشيد قالت له بأن الملك هو ملك ابن المبارك وليس ملك الرشيد لأن الشرطة تجمع الناس لكي يسمعوا للرشيد بينما هم يسعون بأنفسهم ركضاً وراء ابن المبارك. ولقد وعى الرشيد هذه الحقيقة فكان يأمر ولديه الأمين والمأمون بالعناية بأستاذهم العالم الكبير (تلميذ أبي حنيفة) ويوصيهم بألا يأكلوا قبله وأن يلبسوه النعال، حتى كانوا يضعون اللقمة في فمه. هذه الدروس المهمة من التأريخ والتي نمر عليها وعلى أمثالها مرور الكرام، حري بنا أن نتوقف عندها ونستخلص منها العبر، وهي أن التكريم يعكس أولويات الأمة. والعكس صحيح أيضا، أي بمعنى إذا أردت أن تعرف أولويات أمة من الأمم فما عليك إلا أن تنظر في طبيعة الأفراد الذين تكرمهم. وهذه النظرة مهمة في هذا الزمان الذي انقلبت فيه الموازين وغاب دور القيم، فأصبح التكريم حكراً على أهل الفن والفنانين وخصوصاً الفنانات وتطلق عليهم شتى الألقاب وتمنح لهم الملايين عن الحفلات التي يقيمونها. ولست ضد الفنانين والفنانات، فأنا أحب الفن الأصيل الذي يسمو فوق الغرائز، لكن أغلب ما نشاهده اليوم لا يمكن أن يسمى فناً بأي شكل من الأشكال بالإضافة إلى أني لن أتجرأ بالتهجم على فنانات وفناني الزمان فهذه ليست غايتي بالإضافة إلى أنهم أصبحوا اليوم فوق كل شبهة، وأما غيرهم من العلماء والأطباء والمعلمين وحراس الأمن فهؤلاء من أصحاب المهن التي ليست بأهمية الترفيه في نظر أبنائنا، فهؤلاء ذممهم مباحة وأعراضهم مستباحة. ومن كان يشك في ذلك فما عليه إلا أن يقوم بدراسة بسيطة ومقارنة عابرة بين أجور الفنانين والتكريم الذي يحصلون عليه، وبما يماثله من أجور الأطباء والمعلمين والعلماء والأساتذة، أو أن يقوم بإحصاء عدد الصحف والمجلات التي تتحدث عن أخبار الفن ويقارن ذلك بعدد وطبيعة التغطية الإعلامية لأخبار العلماء، وعند ذلك فلابد من الاستنتاج بأن أولوية الأمة هي الترفيه والترويح. والحقيقة أن هناك العديد من الأمثلة التي تدل دلالة واضحة على النتيجة التي توصلنا لها من خلال النظر إلى معيار التكريم في هذا العصر، مثل الرياضة الجسدية التي توصل الإنسان إلى الجسم السليم عن طريق الممارسة الفردية، فقد تحولت إلى ترفيه حيث أصبحت القلة القليلة منا التي تمارس الرياضة تفعل ذلك في سبيل الترفيه والترويح وأصبحنا ننفق الأموال الكثيرة على الرياضة والرياضيين ونغدق المال على المدربين الأجانب ليس من أجل أن نقوم جميعاً بممارستها، وإنما لكي يقوم البعض من اللاعبين الماهرين بالترفيه عنا. وأصبحنا بدلاً من أن نمارس الرياضة بأنفسنا نجلس في الملاعب وأمام شاشات التلفاز لكي نتفرج على ممارسة الرياضة، والأسوأ من ذلك صرنا نجلس للمشاهدة ونستهلك جميع المواد المحرمة والمضرة بصحتنا، كل ذلك في سبيل الترفيه. ومن ذلك الفروسية التي أمرنا الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن نعلم أبناءنا إياها لما توفره من المعاني الأساسية في بناء الشخصية. هذه المعاني التي تذكرنا بقول المتنبي: أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب ويا حسرة على الكتاب وأهله، فقد أصبح مادة للترفيه والترويح أيضاً وليس للثقافة والعلم، فإذا كتبت كتاباً في أي باب من أبواب العلم فلن تجد الناشر، أما إذا كان الكتاب عن قصة غرامية مثيرة للغريزة وخصوصاً إذا أضفت إليها البهارات مثل الخيانة الزوجية، فأبشر بالناشرين الذين سوف يتكالبون تكالب الذباب على الحلوى لنشر كتابك قبل قراءته، وقبل ذلك وبعده يأتيك المنتجون من كل حدب وصوب لكي يحولوا هذا السفر القيم من الآهات والدموع التي تنساب على خدود منتفخة بالسليكون إلى دراما ينافسون بها المسلسلات التركية التي تملأ الفضائيات، والخلاصة فليس عليك أن تضيع وقتك في دراسة أو كتابة بحث عن باب من أبواب العلم لأن أولوية الأمة هي الترفيه والترويح. وفي خضم هذا الكم الهائل من التهريج والجري وراء المهرجين هناك مبادرات ورجال ونساء شجعان يسبحون ضد التيار ويحاولون توجيه الأنظار تجاه العمل العلمي الجاد الذي يحاول جاهدا إيجاد الحلول لمشكلات الأمة والبشرية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك جائزة الملك فيصل العالمية، التي تشرفت بحضور حفلها السنوي قبل أيام، حيث تحاول من خلالها مؤسسة الملك فيصل الخيرية تكريم العلماء في مجالات خدمة الإسلام واللغة العربية والعلوم التطبيقية والطب، وهي بحق مثال رائع في زمن ندرت فيه المبادرات ولكننا بحاجة إلى المزيد. إن الأمة اليوم تعاني من الكثير من الأدواء مثل انتشار الجهل والمرض وضعف الأداء في مختلف النواحي الحياتية، فنحن لا نزرع ما نأكل، بل نأكل ونلبس ما ينتجه الغير، ولا يفوق انتشار الجهل عندنا إلا انتشار الأمراض، القديم منها الذي يصيب الفقراء الذين يصارعون الجوع دائماً ويموتون منه أحيانا، والجديد منها الذي يصيب الأغنياء الذين يشكون التخمة وتصيبهم أمراضها مثل القلب والسكر والبدانة وغيرها. هذا بالإضافة إلى أن أمن الأمة مهدد، لا بل إنها مهددة في كيانها ووجودها، كل هذه طبعاً لا تستدعي الاهتمام منا وتوجيه أبنائنا وبناتنا باتجاه التفكير في إيجاد الحلول لتلك المشكلات التي تهدد وجودنا مثلما فعل أولئك السومريون الأوائل. ولكن لا، فليس كل ذلك من الأولويات بالنسبة لنا اليوم، فالغاية المهمة هي الترويح والترفيه طالما أننا نشغل مصانع الآخرين لكي تنتج ما نأكل وتصنع ما نلبس فلا خوف علينا، خصوصاً إذا أقمنا حفلات هز البطون والأرداف أو على الأقل أفلحنا في الفوز في مباريات الكرة، ولكن يا حسرة فحتى الفوز في مباريات الكرة صار يتطلب العديد من العلوم وأصبح يحتاج إلى وسائل المعرفة التي يصعب على عقولنا إدراكها، وإذا لم نجد بأساً في أن تأتينا الأطعمة والملابس من الخارج فلماذا لا نشاهد الفرق الأجنبية تتبارى فيما بينها لكي لا نصدع أدمغتنا المستريحة بالعلوم وحديث العلماء الذي يتحدث عن المشكلات وحلولها. وأما أنا فلأني من غزية إن غوت غويت، ولأن غزية لم تبلغ الرشاد فأرشد معها، فأنا أعترف بأني من أنصار فريق «مانشستر يونايتد» وأعتقد بأنهم سوف يفوزون بالدوري الإنكليزي هذا العام، وأن ريال مدريد هو الذي سوف يفوز بالدوري الإسباني وليس برشلونة، قولوا معي إن شاء الله. * السفير العراقي لدى المملكة