من يتتبع كتابات الصحف الإسرائيلية عن لبنان يدهش للحجم الذي يأخذه هذا الوطن العربي الصغير لبنان من اهتمام الصحف والدوائر الداخلية والرسمية في قارات عديدة، والتفسير الأول عند متتبعي هذا الموضوع هو انزعاج إسرائيل الخاص مما كتب عن لبنان فهي تكاد لا تتحمل كثافة حضور كلمة مقاومة في كل ما يكتب ويقال في لبنان وعن لبنان بينما لا يوازي ذلك بالنسبة اليها في الحديث عن غيره من الدول العربية وغير العربية. حيث لا اعتماد نسبياً لهذه الكلمة، عند القريب والبعيد فبينما كانت الآذان في كل مكان من العالم قد تعودت ألا تذكر كلمة لبنان إلا وإلى جانبها كلمات مهدئة ومطمئنة بل شارحة للصدور المتعبة كالسياحة والاصطياف والمصارف والسلام الدائم. إذ بها تفاجأ أن لا حديث في لبنان وعن لبنان إلا ومعه كلمات تعبئة كالنضال والجهاد والتصدي لإسرائيل وإيقافها عند حدها. دائماً في خياراته الكبرى يصر لبنان على أن يؤكد ثنائيته العروبية والاستقلال الوطني معاً بل ان المسنين من الاسرائيليين فوجئوا بظاهرة لم يكن لها عندهم حساب وهي أن لبنان المسيحي ولبنان المسلم مسوقان بظروف واقعية وخيارات مصيرية وجدت الى التعامل مع وطن الأرز على أنه الوطن العربي المضطر أكثر من أي قطر عربي آخر الى الحسم في موضوع هويته ودوره هل يكون هو الخاصرة الرخوة في الجسم العربي أو يكون بالعكس الوطن الطليعي المعتز بلبنانيته وعروبته في آن معاً أو لا البلد المساير لإسرائيل على حساب لبنانيته وعروبته. وشأنه دائماً في خياراته الكبرى يصر لبنان على أن يؤكد ثنائيته العروبية والاستقلال الوطني معاً. فسرعان ما يتذكر لبنان تحت ضغط الأحداث ولو بعد نسيان علاقته التوأمية القديمة الخاصة مع فلسطين الماضي فزعيمها الحاج أمين الحسيني عاش نزيلاً في لبنان كما عاش تقريبا في فلسطين. وظل المجاهد الفلسطيني فوزي القاوقجي لبنانيا عريقا في جذوره اللبنانية الطرابلسية عراقته في الجهاد الفلسطيني بل ان القاوقجي كان في نظر عدد كبير من اللبنانيين من أهل مدينته طرابلس الرجل المأمول لبنانيا لإجراء انقلاب سياسي ووطني في لبنان يطيح بالانتداب الفرنسي الجاثم على صدر لبنان وسوريا. فسوريا المناضلة ضد الاحتلال الفرنسي كانت دائما هي القبلة التي يتوجه اليها المناضلون العرب فيوسف العظمة وزير الدفاع في الحكومة السورية بقي النجم الأكثر تمثيلاً للجهاد العربي سواء في سوريا او أي بلد عربي آخر هو محط الأنظار. بل ان الرأي العام الدولي والعربي كان يبدو وكأنه اعتمد ثنائية مبسطة في النظر الى قطرين شقيقين وجارين هما لبنان وسوريا، فلبنان هو الاصطياف والازدهار للاقتصاد وسوريا هي النضال الوطني ضد الأجنبي، وقد اتفق الرأي العام العربي والدولي على هذا التصنيف البسيط والمريح للأذهان والنفوس. قليلون هم من لم يعتمدوا في البدء هذا التقسيم ولكن مع مرور الزمن بدأت تنكشف صورة جديدة. اذ تبين أن نضالاً ضد الانتداب قد ظهر في لبنان كما في سوريا وتبين أن هناك أيضاً متعاملين مع الانتداب كما أن هناك من اللبنانيين هم نماذج عن النضال ضد الاستعمار يستحقون أن يؤخذوا نماذج نضالية تستحق أن تعتبر قدوة للشعوب الأخرى كائنة من كانت فإلى جانب يوسف العظمة الرمز العربي الكبير ضد الاستعمار ظهر المتعاونون مع الانتداب كالشيخ تاج الدين الحسيني شكل للدور وجوده عند الأمم فالشيخ تامر مثلاً الذي وصفه الفرنسيون في أرفع المناصب كان وظل نموذجاً عن المتخاذلين والمستعدين دائماً للتعامل مع نزعة الاستعمار المنقسمة في الدول الغربية. وهكذا ظهرت سوريا بين عشية وضحاها كما لو انها بالمقارنة مع غيرها من الدول العربية مدرسة مفتوحة للتيارات السياسية، فهناك الساسة المتطرفون يسارياً كما هناك المتطرفون يميناً، وهناك الجهوديون والملكيون والعسكريون المتسيسون والساسة المتعسكرون. وسرعان ما انكشف مع الأيام أن سوريا تحولت بإرادة منها وغير إرادة الى مدرسة للتطرف اليساري وأخرى للتطرف اليميني، وللديمقراطية والحكم الفردي، للاتجاه الديني والآخر العلماني، للمركزية والجهودية. مع ذلك يبقى أكثرية المتابعين للحياة السياسية السورية متفائلين بأن القطر العربي كان ولا يزال عنده الكثير من يعطيه لتحارب الدول العربية الأخرى مشرقها ومغربها، والبرهان هو على نضج شعبها ونخبها، وكونها قادرة على أن تفيد نفسها وغيرها، والدليل ثقة الساسة الأتراك من أصحاب الخبرة بها. والملاحظ أن السياسي التركي أردوغان كان ولا يزال من الذين يثقون بقدرتها على معرفة طريقها هي قد تتعرض للخضات ولكنها قادرة دائماً على النهوض وبناء ذاتها وربما غيرها أيضاً فهي الدولة المسلمة التي مارست الحكم مدة طويلة لأجزاء في البلقان وآسيا وافريقيا وهي تشبه الى حد بعيد مدينتها الساحرة اسطنبول وإذا كان أمير الشعراء أحمد شوقي قد قال في إحدى قصائده إن الترك هم أسود الحروب فإنه راهن على خبرتهم المتراكمة على الزمن في شؤون السلم والحكم المدني. ولعل أهم مزايا الحكم التركي الحالي هو أنه يعيش منذ زمن خبرتين: خبرة الدولة العثمانية وخبرة مصطفى كمال العلماني، وكلاهما كان أنجح بأهل الحكم في زمانه. ان اهمية السياسي التركي اردوغان هو أنه عرف الغربي الأوروبي من دون انبهار وعرف الشرق الاسلامي من دون استعلاء. ولعل شعبيته داخل تركيا وخارجها ناتجة من أنه مع اعترافه بأهمية التمدن الغربي الحديث وإعجابه بإنجازاته لم يقع يوماً في فخ التفرنج، وظلت له ملاحظاته على سياسة منشئ تركيا الحديثة مصطفى كمال، الذي قال فيه أحد أكبر فلاسفة الترك رضا توفيق الذي ترك تركيا اعتراضاً على تزمت مصطفى كمال في سياسته العلمانية وصرح في مؤتمر صحفي عقده في لبنان في العاصمة اللبنانية عند لجوئه إليها قائلاً: كانت تركيا العثمانية أول دولة في الشرق فجعلها مصطفى كمال بعلمانيته آخر دولة في الغرب. اسرائيل تواصل يومياً عدوانها على الفلسطينيين مستغلة انصراف أنظار العالم الى ما يحدث في سوريا وغيرها من دول الربيع العربي. فهي تستبيح غزة يوميا من دون رقيب أو حسيب لانها تعلم ان ما من قدرة على وضع حد لهمجيتها الا بمقاومة على الطريقة اللبنانية او زعماء كالرعيل الأول يبدو اليوم بعيدين عن الساحة. هذا ولا بد من القول انصافاً للبنان انه أحد البلدان العربية القليلة التي لاتزال فيها كلمة مقاومة معمول بها أو ذات حرمة معنوية عند غالبية أبناء الوطن.