اهتم النقاد بالمسائل التي تتعلق بعملية إبداع القصيدة أو (بواعث القول) بنفس درجة اهتمامهم بالقصيدة وجمالياتها وجوانب التميز فيها، فمرحلة (ما قبل) ولادة القصيدة وطقوس الشعراء في مرحلة المخاض الشعري مواضيع يكتنفها شيء من الغموض ولها جاذبية خاصة لدى المتلقين والنقاد، لذلك نجد حرصاً كبيراً منهم على تتبع الطقوس والبواعث ودراستها؛ ولعل أشهر المقولات التي تتحدث عن بواعث الشعر هي التي تُشير إلى أن «امرأ القيس أشعر الناس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب»..! هذه المقولة التي تقتصر فيها الإشارة إلى شعراء بعينهم وبواعثهم لنظم الشعر لقيت عناية كبيرة ومن النادر أن يأتي الحديث عن بواعث إبداع الشعر دون ذكرها، وثمة باعث نفسي أعتقد أنه مهم جداً نظراً لارتباطه بعملية الإبداع الشعري لدى معظم الشعراء ومع ذلك لم يرد في المقولة السالفة ولم يجد كبير عناية من النقاد، ففي أحاديث الشعراء أو في سيرهم الشعرية ترد إشارات تؤكد على أهمية مشاعر (الحزن) في عملية إبداع القصيدة، يقول الشاعر غازي القصيبي رحمه الله عن عملية الإبداع الشعري عموماً:» إن العملية الشعرية عملية معقدة لا أعرف شيئاً من مجاهيلها وأسرارها وأبعادها، ولا أعتقد أن غيري يعرف. أنا لا أعرف لماذا أكتب الشعر أو كيف أكتب الشعر. ولا أقرر قبل كتابة قصيدة ما أنها ستكون حزينة أو غير حزينة»، ويُؤكد في موضع آخر من (سيرة شعرية) على أهمية عاطفة الحزن وعمق أثرها في الحياة والقصيدة قائلاً: «الحزن بطبيعته عاطفة حادة مُشتعلة بخلاف السعاة وهي عاطفة هادئة لا نكاد نحس بها إلا إذا افتقدناها. نحن نتحدث عن تعاستنا، عندما نشعر بالتعاسة، ولا نتحدث عن فرحنا عندما نحس بالفرح .. إن مشاعر الحزن قد لا تكون هي الغالبة علينا ولكنها عندما تمر بنا عنيفة قوية تترك أثراً واضحاً على حياتنا وعلى شعرنا إن كنا من الشعراء». ومن الشهادات الطريفة والغريبة في ذات الوقت ما ذكره شاعر العربية الكبير حافظ إبراهيم -رحمه الله- في إجابته عن سؤال: (كيف تنظم الشعر؟) عن أهمية ما سماه (مُجاورة الحزن) لإبداع القصيدة، وأن إبداعه في موضوع مُرتبط بالفرح يزداد كلما كان حزيناً، يقول حافظ: «هناك عوامل تجعلني أجيد: منها أن أكون في حالة من الشجن تُجاور الحزن .. فأنا لا أجيد القصائد في التهاني نفسها إلا وأنا حزين»..! ويعترف كثير من الشعراء بأن تلقي قصائدهم وأبياتهم التي تحمل مشاعر الحزن والأسى والانكسار بالإعجاب يكون أكبر بكثير من تلقي تلك التي تبتعد عن مجاورة الحزن أو التي يكون فيها الحزن مصطنعاً وغير صادر من عاطفة قوية وصادقة.