لا شك أن الشر في الناس كثير.. ولكن الخير فيهم كثير أيضاً بحمد الله.. وقد تختلف المفاهيم في تحديد ما هو (الشر) حسب البيئة والظروف.. فحين سمع الفاروق - رضي الله عنه - قول الشاعر الجاهلي يعتب على قومه بل يهجوهم لأنهم لم ينصروه حين أُخذت إبله: «لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون من ظُلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا» إن السباع لتهدأ في مرابضها والناس ليس بهادٍ شرهم أبدا (دعبل الخزاعي) قال الفاروق رضي الله عنه: نِعمُ القوم هؤلاء.. وهذا ما يحض عليه الإسلام في ظل عدله وسماحته واستتاب الأمن فيه.. لكن الشاعر قالها في الجاهلية حيث يسود قانون الغاب ويأكل القوي الضعيف، ولذلك تمنى أن قومه (أشرار) بمعنى أنهم مهابون ولكنه بالغ في طلب (النجدة) بدون تحقيق ولا سين ولا جيم.. «فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا» فهو يريد قوماً يشنون الغارة ابتداء فليقبل إذن الغارة التي شنت عليه ابتداء.. على أن رؤية كثير من الشعراء للناس غير طيبة ولا متفائلة.. يرون أنهم للشر أقرب.. يقول المعري: «يحسنُ مرأى لبني آدم وكلهم في الذوق لا يعذُبُ ما فيهمُ بر ولا ناسك إلا إلى نفع له يجذبٌ أفضلُ من أفضلهم صخرةٌ لا تظلم الناس ولا تكذبُ» لو يجي عابد لا بد له بغار ما يحب الأذى جاه من يحشره (حميد الشويعر) ونحن لا نوافقه على التعميم، ففي الناس أخيار وأشرار، وفيهم أبرار لا يظلمون ولا يكذبون، وإن كانت الأغلبية تميل إلى المصالح بالحق والباطل، فقد وردني الحديث الشريف: «الناس كإبل مائة لا تجد فيهم راحلة». بمعنى أن الأكثرية لا يعقلون ولا يفقهون ولا يشكرون، وهذا ما ورد في التنزيل العظيم.. وللمتنبي رأي أسود في الناس.. يقول: «إذا ما الناس جربهم لبيب فإني قد أكلتهم وذاقا فلم أر ودهم إلا خداعا ولم أر دينهم إلا نفاقا» وهو تعميم مرفوض أيضاً فإن كان المتنبي احتك بهذه النوعية الرديئة - فرضاً - فلا يصح أن يعمم، لأن الخير في أمة محمد إلى يوم القيامة و(من قال هلك الناس فهو أهلكهم). والمتنبي قاسٍ جداً على الناس: «ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس، روَّى رمحه غير راحم فليس بمرحوم إذا ظفروا به ولا في الردى الجاري عليهم بآثم» وهذا غير صحيح إطلاقاً ولا يجوز أن يعمم تجربته، ويبدو أن الشر فيه هو، كما أنه - المتنبي - لا يعتبر نفسه من ناس زمانه لكنه (شكل تاني)! «ودهر ناسه ناس صغار وإن كانت لهم جثث ضخامُ وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغامُ» فهو ذهب وناس زمانه تراب!!.. قد نقبل قوله: «فلما صار ودُّ الناس خِبّاً جزيت على ابتسام بابتسام وصرت أشك فيمن أصطفيه لعلمي أنه بعض الأنام وآنف من أخي لأبي وأمي إذا ما لم أجده من الكرام» على أن البيت الثاني فيه مبالغة فهل المتنبي ملك حتى يشك في الأنام، أليس منهم؟! ولابن الرومي: (وأعلم بأن الناس من طينة يصدق في الثلب لها الثالبُ لولا علاج الناس أخلاقهم إذاً لفاح الحمأ اللازبُ) قلت: ومعالجة الأخلاق ومجاهدة النفس دليل خير.. ولأبي العتاهية يشكو أهل زمانه: «لا اشتكي زمني هذا فأظلمه وإنما اشتكي من أهل ذا الزمن هم الذئاب التي تحت الثياب فلا تكن إلى أحدٍ منهم بمؤتمن قد كان لي كنز من الصبر فاضطررت إلى إنفاقه من مداراتي له ففني» وشعرنا الشعبي أكثر واقعية في وصف الناس، حتى حميدان الشويعر - الذي ينظر للناس بريبة - يحذر من الظلم ولكنه يحذر أيضاً من الخضوع للظلم وقبول الشر: «أدفع الشر دامك تقدر حتى تنصر بتاليها واردع نفسك عن العيله حاذور الزودا تهويها فان جتك الطلبه في حقك فاضرب بالسيف معديها والسيف القاطع والعزمه لرقاب الضد تهديها الارنب ترقد ما توذي ولا شفت الناس تخليها والسبع الموذي ما يرقد ولا يُوطا بارض هو فيها»