الصداقة شجرة ذات جذور قوية وأغصان وارفة وظل ممتد لا يعتريه الانحسار ولا الانكسار ، ينعم بظلها الأصدقاء ، لا تعرف الشيخوخة ولا الهرم متى ما نمت على حافة نهر من التواصل والوفاء والرعاية وعذوبة التعامل وتجاوز الزلات والغفلة عن الهفوات ، يغذيها الصدق وتبادل الاحترام والمودة . وكلنا يعرف نماذج حية متجددة من الصداقة تربط بين عدد من أفراد المجتمع وفئاته ، بغض النظر عن أي اعتبار وعن أي تمايز في المناصب أو الثروة أو السكنى أو نمط الحياة . وفي تاريخنا وتراثنا نماذج كثيرة يضرب بها المثل في عمق الصداقة اهتم بتدوينها متخصصو التراث ، ونعرفها جيداً قصها علينا الرواة وقرأنا عنها في الكتب ، تمثلت على سبيل المثال فيما بين الحضر ساكني القرى ، و البدو الرحل الذين يفدون إلى القرى وقت القيظ . وتلك العلاقة أفرزت الكثير من التقارب والحميمية والصداقات بين الفئتين الحضرية والبدوية ، والكل منهم يجد في الآخر مصدرا من مصادر أنسه واطمئنانه . والأكثر منها فيما بين الحضر أنفسهم ، وكذلك البادية فيما بينهم نظرا لتقارب الأمكنة وتلاقي المصالح . منديل الفهيد وهذه العلاقة الطيبة كانت ولا تزال ، و قد عمقت جذورها في كثير من فئات المجتمع ، تحكي قصص الوفاء واللقاء والتضحية . هناك بدو تركوا باديتهم وتقاربوا مع أصدقائهم الحضر ومع مرور الوقت انتهوا إلى حيث جمعتهم القرى حيث وجدوا البديل في أصدقاء لهم مستقرين. والوفاء من جميع الأطراف غذاء الاستمرارية في هذا الطريق وهو مادة بنائه. ومن نماذج الصداقة ما يروى عن شخصين هما :عواد وعبيد. فعواد وعبيد صديقان لبعضهما تناقل قصتهما الرواة ( ومنهم عبد الله بن خميس ومنديل الفهيد )، أحدهما حضري يملك نخلا ومزرعة في القرية ، والآخر بدوي له من الإبل ما يتتبع بها منابت الكلأ وقت الربيع .وكانت صداقتهما ضاربة في عمق تاريخ معرفتهما ببعضهما ، حيث مضت عشرات السنين وهما يتزاوران ويتزود كل منهما بما عند الآخر بحسب حاجته ، وتظل الرفقة بينهما لا تنقطع ، بل إن التلاقي يكون في كل صيف حيث تجف الموارد ويقل نبت الأرض ، فيفد البدوي على صديقه يجاوره ويسقي إبله من المياه ، فإذا انقضت حرارة القيظ تزود بما يحتاج وودع صديقه ، كما أنه يهديه ويعطيه ما يحتاجه . وفي سنة من السنوات مرت على الحضري ضائقة مالية وركبه الدين الذي تراكم عليه خلال فترة كان يستدين فيها من أحد التجار الذين ينوون شراء البستان بعد أن يتكثر هذا الدين على صاحبه ، فاضطر معها أن يبيع النخل ، من أجل سداد دينه ، ولكنه استثنى عشر نخلات ، مدعياً أنها لصاحبه البدوي أو هكذا يريدها بالفعل وفاء لصداقته الطويلة فلا يريد التفريط فيها . وسلم المزرعة للمشتري وسكن بيتا في وسط القرية ، ولا تسأل عن حاله وهو يقطع من جذوره وما تعود عليه طيلة عمره من الفلاحة وعيشة المزارع المتجول في بستانه المراقب لنمو أشجاره ، إذ كيف سيمضي بقية حياته بلا مزرعة ولا مورد كما تعود؟هذه هي المعضلة . عبد الله بن خميس وقد نقل الخبر لصاحبه البدوي فالكل يعرف العلاقة بينهما ، كما علم أيضا بأن صاحبه استثنى له من المبيع عشر نخلات تكون باسمه ، فجاء مسرعاً إلى القرية دون أن يعلم صاحبه الحضري . وتوجه إلى المزرعة وشفع على المبيع واستردها كاملة وسلم الثمن بعد أن باع بعض إبله ليستكمل المبلغ . ثم سأل عن دار صديقه الحضري وطرق عليه الباب ، فلما فتح له فإذا برجل مكسوف البال منكسر الخاطر لا يدري ما يقول ، وربما كانت أول مقابلة يراه بهذا الشكل المهموم المغموم . ولكن المفاجأة ظهرت بعدما جلس معه لتناول القهوة وتبادل الحديث كالمعتاد ، فأخرج البدوي ورقة الملكية ، فقد اشترى بستان صاحبه ليعيده إليه و باسم الحضري بناء على شفعة بتلك النخلات العشر ، ووفاء لصاحبه وإعادة لمياه الحياة في نفسه . ففرح فرحا شديدا ، وصدق ظنه في صديقه وعادت الحيوية إليه وإلى صداقتهما حيث انقشعت من سمائها هموم الحاجة . ويثبت هذه القصة قول الشاعر ، منديل الفهيد ، بالإضافة لذكرها من قبل عبد الله بن خميس في كتابه من أحاديث السمر : ياحبني لأهل الوفا والأجاويد لو هم من أهل الشرق ولا الشمالي خطو الولد يصبر كما يصبر الحيد يشيل شيل مثقلات الجمالي واحد محاصيله لربعه مناقيد يضرب على درب الردى ما يبالي رفقاتهم رفقات حاجة وتقليد بذرٍ بهم كنه بصبخا هيالي ودك ترافق مثل عواد وعبيد يضرب بهم وصفً لا تلى التوالي باع النخل بالدين هو والمعاويد وظهر مفلًس من جميع الحلالي مستثني عشر نخلات من الغيد قال : لرفيق قد فزع لي بغالي وفزع رفيقه مرذي الكنّس العيد والدين ساقه با لوفا والكمالي رده على ملكه بليا تحاديد ذي رفقة اللزمات بين الرجالي مهوب من يدرق رفيقه كما الصيد مضوة زمان وينكر الفعل تالي سبابة المقفي ليام حواسيد الله عساهم للفنى والزوالي