رأيت قبل أيام منظرا (مخلا بالآداب) تسبب في كتابتي لهذا المقال.. فأثناء مروري بقنوات التلفزيون شاهدت قردا يقبل آخر - وسأفترض أنها والدته - الأمر الذي جعلني أحدث نفسي سرا: كنت أعتقد أن الانسان هو المخلوق الوحيد الذي يُقبل غيره؟ ليس هذا فحسب؛ بل ذكرتني هذه اللقطة بمقال قديم بعنوان "الوحيد الباكي" قلت فيه إن الانسان هو المخلوق الوحيد الذي يذرف الدموع بناء على العاطفة والمشاعر الجياشة.. ثم اكتشفت أن التماسيح تفعل ذلك أيضا.. ولكن لتغسل عيونها من بقايا الوحل. أما بخصوص القبلة؛ فشكلت لي اللقطة السابقة موقفا محيرا كوني كنت أعتقد أن الانسان ليس فقط الوحيد الذي يُقبل بدافع العاطفة، بل والوحيد القادر على فعل ذلك بفضل شفتيه المقلوبتين، فالدلافين والطيور والأسماك لا تملك شفتين تتيحان لهما فعل ذلك. غير أن الوضع يبدو مناسبا لقردة الشمبانزي كونها - من جهة - تتمتع بشفتين مقلوبتين يمكنهما التقبيل، ومن جهة أخرى تملك مشاعر حنونة تجاه أطفالها والمجموعة التي تعيش بينها. وبطبيعة الحال لا يمكن الاحتكام الى التاريخ حين يتعلق الأمر باختراع القُبلة وسنة انتشارها بين الناس.. ولكن المؤكد أن الفعل ذاته قديم ومتأصل بدليل وجود رسومات تعود لأكثر من أربعة آلاف عام تصور مظاهر تقبيل جماعي في شمال الهند.. كما كشفت حفريات بومبي (المدينة الايطالية التي دفنها بركان فيزوف) عن هياكل عظمية كانت في وضع التقبيل قبل طمرها بالرماد.. أضف لهذا؛ يعرف معظمنا قصة الاعرابي الذي شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن والحسين فاستنكر ذلك وقال: إن لي عشرة من الصبيان ما قبلت منهم أحدا.. فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: مَن لا يَرحَم لا يُرحَم، وفي رواية: وما أَملكُ إنْ كان الله نزَع منْ قلْبكَ الرّحْمة!! ورغم أن للعلماء تفاسير شتى بخصوص دوافع التقبيل (من بينها ذكريات الرضاعة الأولى) إلا أن تفسيري الشخصي للقبلة يعتمد على الترتيب التالي: في البداية تظهر لدينا مشاعر جياشة وعواطف قوية تجاه الطرف الآخر.. وبالتالي نشعر بضرورة التلامس معه والالتصاق به بقوة (كما يحدث حين تلتقي بابنك الغائب منذ مدة).. ولأن شفتي الانسان تملك قدرا هائلا من النهايات العصبية الحساسة تصبح هي الأقدر على تقديم قدر أكبر من الرضا وإرواء الغليل (فتشعر بضرورة لصق شفتيك بخده ووجنتيه).. ويتضاعف الاحساس بالرضا ويصبح الشعور أقوى بين المحبين حين تتلاصق الشفايف وتتلاقى نهاياتها العصبية الحساسة. واليوم أصبح مؤكدا أن القبلة تهيئ الجسم والدماغ لمراحل فعل تالية أعمق وأكبر.. فهي مثلا مسؤولة عن إطلاق المزيد من مادة الدوبامين (التي تقوم بعمليات النقل العصبي) وبالتالي مضاعفة حجم المشاعر التي نكنها للشخص الآخر.. وبتكرار الفعل يتولد نوع من السعادة والإدمان على تقبيل هذا الشخص بالذات عطفا على مستوى اللذة والرضا التي تعلمناها سابقا. أضف لهذا؛ تساهم القبلة في كسر الحواجز الشخصية ومشاعر النفور الجسدية بحيث يتقبل الجنسان (بعدها) أي مظاهر وأفعال يقدم عليها الطرف الآخر.. وهو ما يرجح رأي من قال بأن القبلة الحميمية هي مقدمة الزنا والمقصودة في قوله تعالى "ولا تقربوا الزنا". وفي الحقيقة؛ مجرد تفاوت مستويات القبلة دليل على ارتباطها بقوة وتنوع العواطف البشرية.. فهي تتدرج بين مجرد تلامس سريع بين الخدين (كما يحدث بين الضيوف الذين يتلاقون لأول مرة) إلى القبلة السريعة والخفيفة بالشفتين (كالتي يطبعها الابن على رأس والده أو خد والدته) انتهاء بالقبلة الطويلة والعميقة التي يتبادلها الزوجان سرا. وهذه الأخيرة لا تتسبب فقط بانتقال أعداد هائلة من البكتيريا بين الطرفين (حيث يحتوي كل مليمتر مكعب من اللعاب على 100 مليون كان بكتيري) بل وأيضا تحفز الدماغ على ضخ المزيد من مادة الدوبامين والهرمونات الجنسية في الجسم!! وهو مالا يفعله الشمبانزي..