الكوادر الوطنية المؤهلة مطلوبة ليس في مجال التشغيل والصيانة فقط بل في مجال الابتكار وخفض الكلفة وتحسين الإنتاج من خلال مختبرات البحث والتطوير التي هي الفيصل في هذا المجال كل العلوم بدأت باعتقادات ونظريات خلطت بين الحقيقة والخيال والشعوذة ولكن مع تقدم الفكر البشري والانتقال من التنظير إلى التجريب والقياس والمشاهدة ثم التطبيق بدأت العلوم تتبلور وتأخذ النظريات نهج الحقائق، من ذلك أنطلق العالم المتقدم بين حضارة العصر الحديث، ولم يكن لذلك أن يتم لولا البحث المستمر وتطوير كل نتيجة يتم الحصول عليها إلى ما هو أفضل منها من حيث خفض التكلفة وتحسين الإنتاجية واختصار الطريق وايجاد البدائل المناسبة التي تحقق ما ذكر. وكان ذلك في الماضي يعتمد على جهود وأعمال فردية وابتكارات شخصية أو جماعية محدودة. أما اليوم فقد قامت وتقوم المؤسسات والشركات الصناعية المختلفة في جميع أنحاء العالم المتقدم وكذلك من ينشد التقدم بإنشاء مختبرات للبحث والتطوير كل في مجال تخصصه وهذا يشمل الأنظمة النووية وأبحاث الطاقة والأنظمة الكيميائية والحيوية والإلكترونيات المتقدمة وأنظمة الفضاء والطيران وتقنية المحركات والنقل المتقدمة وتقنية الليزر وأشباه الموصلات وتقنية الاتصالات وأجهزة وبرامج الحاسب والعوامل الحافزة والمساعدة إلى غير ذلك مما لا حصر له من التقنيات بالغة الأهمية على المستوى الاقتصادي والعسكري. وهذا بلا شك يعتبر جزءاً من الخيار الاستراتيجي لمن ينشد التقدم عن طريق توطين التقنية. وهذا أصبح اليوم من أوجب واجبات العرب والمسلمين وخيارهم الأول والأخير وذلك حتى لا يظلوا مستهلكين لقشور التقنية ومخرجاتها بل يصبحون من ملاكها ومنتجيها. نعم إنه بسبب البحث والتطوير المستمر أصبحنا نجد أن جميع المعدات والأجهزة لا تبقى صالحة أو منافسة إلا فترة زمنية قصيرة بسبب نزول ما هو أحدث منها إلى السوق خصوصاً في الدول النامية لأنها لا تجد لها قطع غيار مناسبة ولأنها تصبح متقادمة والسبب أنه في مثل هذه الدول لا يوجد من تسند آلية مهمة تطوير الجهاز أو المحافظة عليه لأطول مدة ممكنة وهذه عملية اقتصادية محسوبة من قبل الشركات المصنعة فعلى سبيل المثال لا الحصر يتم تطوير تقنية الحاسبات الآلية من حيث السرعة والاستيعاب وغيرها من الفعاليا خلال أشهر وليس سنوات. أما الدول النامية الأكثر تقدماً والمملكة العربية السعودية في مقدمتها فإنها بدأت لها عملية الأخذ بالخيار الصناعي جذابة ومغرية لذلك فإن عدد المصانع في مملكتنا الحبيبة أصبح يربو على ألفي مصنع كلفت مليارات الريالات وأقيمت مناطق صناعية في جميع المدن الرئيسية في المملكة متوجة بعريني الصناعة الوطنية في كل من الجبيل وينبع بالإضافة إلى صناعة استخراج الزيت وتصديره، مما أدى إلى وجود دعم للناتج الوطني وتنويع لمصادر الدخل القومي. إلا أن الصناعة التي أقيمت وعلى الرغم من أهميتها يتم بناؤها من قبل شركات أجنبية متخصصة وهذا ليس عيباً ولكن الشيء غير المرغوب فيه هو أن يتم استيراد بعض المواد الخام من الخارج بينما يمكن أن يتم إنتاجها من الداخل ناهيك عن أن الأجهزة والمعدات المستخدمة في الصناعة يجب أن يتم تطويرها وإنتاجها في الداخل، ولكن السؤال هو كيف يتم ذلك؟ والجواب يكمن في ايجاد مختبرات للبحث والتطوير تساند الصناعة الوطنية وتمكن من جعل الصناعة الوطنية معتمدة على ناتج أبحاث وتطوير وطني مما يهيئ لها هامش ربح ممتازاً بالإضافة إلى أن المواد المستوردة من مواد حافزة أو مواد خام يمكن أن تنتج محلياً وبالتالي يمكن الاستفادة منها وتصديرها لذلك فإن وجود مختبرات للبحث والتطوير يمكن أن يعول عليه في أمور كثيرة وأن يكون لها مهام متعددة بالإضافة إلى دعمها وتطويرها من خلال: 1 - يجب إعداد كوادر وطنية مؤهلة ذات مواهب متميزة من قبل كل قطاع يحتاج إلى مختبرات للبحث والتطوير وأن يدعم تلك الكوادر بالتشجيع والاتصال والتدريب المستمرين. 2 - يجب جلب أعلى أنواع الخبرة العالمية للعمل في تلك المختبرات من جهة لتطويرها ومن جهة أخرى لتشكيل مجموعات عمل وطنية متخصصة تستفيد من ذلك الخبير وتأخذ من تجاربه وفكره. 3 - اليابانيون وغيرهم بدأوا مشوارهم الصناعي عن طريق التقليد والمحاكاة ثم التطوير ثم الابتكار من خلال مختبرات البحث والتطوير والجامعات ومراكز البحث العلمي المختلفة حتى أصبحوا اليوم من قادة العالم الصناعي بل إنهم قد تمكنوا من التقدم على من تم تقليدهم في الأمس. واليوم يحذو حذوهم كل من الكوريين الجنوبيين والصينيين والماليزيين وغيرهم من الدول التي تتحرك في اتجاه توطين التقنية المتقدمة والتحول إلى نادي الدول الصناعية. 4 - لعبت المخابرات الدولية في مجال العلوم والتكنولوجيا دوراً هاماً في الحصول على أسرار بعض أنواع الصناعات والتقنية المتعلقة بها وكذلك الأسرار العسكرية للأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى. وما قام به الاتحاد السوفيتي سابقاً ودولة إسرائيل ودول صناعية كثيرة خير شاهد على ذلك ومن ذلك ما سمعناه قبل عدة أعوام من أن الصين قد تمكنت من سرقة تكنولوجيا قنبلة النيترون من الولاياتالمتحدةالأمريكية والذي أعلن عنه المتحدث الرسمي الأمريكي حين ذلك وذلك عقب إعلان الصين امتلاكها لتلك التقنية المتقدمة. ولا أبالغ إذا قلت إن الولاياتالمتحدةالأمريكية تخسر سنوياً حوالي 24 بليون دولار بسبب سرقة أسرارها التكنولوجية عن طريق التجسس ومن المعروف أن أكبر المتجسسين عليها هي دولة إسرائيل. وعلى العموم فإن أكثر التقنيات جاذبية للتجسس والسرقة هي تلك التي لها استخدام مزدوج مدني وعسكري. 5 - بعض الشركات العالمية المتخصصة لا تمانع من بيع بعض أنواع التكنولوجيا المتقدمة لديها للدول الأخرى بصور سرية أو علنية طبقاً لعقود ومواثيق مبرمة لكن الاستفادة من هذه الأنواع من التكنولوجيا تكون في العادة محدودة إذا لم يوجد من يستطيع استيعابها ثم تطويرها وتحويلها من سلعة مستوردة إلى سلعة وطنية يمكن الاستفادة منها وإعادة تصديرها. لأنها إذا تركت كما جاءت أصبحت بعد مدة وجيزة قديمة وغير مربحة وهذا هو الحال في أغلب الصناعات التي يتم بناؤها في الدول النامية. 6 - أي أنها السبيل نحو توطين التقنية فالتقنية المستوردة والعمالة المستوردة سوف يختفيان الأول بالتقادم والثاني بالعودة إلى بلاده وبالتالي ننتهي كما بدأنا بدون رصيد وطني يعول عليه في مجال التشغيل والصيانة والصناعة والابتكار في مجال توطين التقنية. 7 - جميع مستشفياتنا وجامعاتنا ومصانعنا وجميع المؤسسات العامة والخاصة تعج بجميع أنواع الأجهزة والمعدات المتقدمة التي تستخدم أحدث أنواع التقنية المتوافرة على وجه البسيطة وهذا شيء جميل وممتاز لكن الأجمل منه أن نتمكن من استيعاب تقنية تلك الأجهزة والمعدات ليس من خلال الاستعمال فقط، بل من خلال التشغيل والصيانة والتطوير والابتكار حتى تصبح تلك التقنية ملكاً لنا ولا نعتمد على غيرنا في جلبها وتشغيلها ومص اقتصادنا في تغييرها عند الاستغناء عن القديم منها. 8 - بعض أنواع الأجهزة نضطر إلى الاستغناء عنه عند تعطل جزء منه أو ظهور جهاز أفضل وأحسن منه مع أنه لو توافرت الخبرة لاستطاع ذلك الجهاز أن يعيش لمدة زمنية أطول وذلك عن طريق تطويره بقطعة غيار واحدة أو أكثر أو توصيله بجهاز مساند يتم تطويره محلياً وبذلك نوفر مبالغ ضخمة ونستغني عن شراء جهاز جديد لا يلبث أن يتقادم. 9 - الأستاذ الجامعي ذو التخصص العلمي الذي يمارس البحث الأساس basic research والتدريس لا تزداد خبرته مع الزمن إلا في هذين المجالين والبحث الأساس على الرغم من أهميته إلا أنه في الدول النامية ربما يقال إنه اقرب إلى الترف العلمي منه إلى الفائدة المرجوة، ذلك أن تلك الدول تحتاج أكثر ما تحتاج إلى البحوث التطبيقية وهذه يمكن أن يكتسبها ذلك الأستاذ وغيره من الفنيين العاملين معه من خلال دعم بحوثه التطبيقية وإتاحة الفرصة له للعمل في مختبرات البحث والتطوير في الداخل إن وجدت أو بعثه بين فترة وأخرى إلى أحد المختبرات العريقة في الدول المتقدمة أو تشجيع مثل هؤلاء الأعضاء بأن يقضوا سنة تفرغهم العلمي في مثل تلك المختبرات إن أمكن مع دعمهم المادي والمعنوي واستمرار اتصالهم بالمصانع ذات العلاقة بتخصصهم مما يزيد من كفاءتهم وخبرتهم العلمية بالتالي يعول عليهم في البحث والتطوير. 10 - دعم البحث العلمي في الجامعات بصورة عامة والبحوث التطبيقية بصورة خاصة من قبل القطاع الخاص وخصوصاً البنوك والشركات التي تحقق أرباحاً خيالية معفاة من الضرائب ينشط البحث العلمي ويشحذ الهمم ويوجد كوادر وطنية أكثر تأهيلاً كما يقلل من التسرب من الجامعات عن طريق التقاعد المبكر أو البحث عن فرص عمل يجني منها عوائد مادية أفضل في أماكن أخرى وإن كانت ليست ذات علاقة بالتخصص وهذ هدر لسنوات العمر التي قضاها ذلك الشخص في التحصيل وهدر لما صُرف عليه من أموال ناهيك عن وجود كوادر وطنية عالية التأهيل في الجامعات تعد رافداً ودعامة يعول عليها في أمور كثيرة يأتي في مقدمتها الصناعة وذلك من خلال مختبرات البحث والتطوير أو من خلال الاتصال المباشر. 11 - أن مهمة البحث والتطوير أصبحت اليوم أسهل من ذي قبل وذلك بسبب ما توافر من وسائل تكنولوجية حديثة مثل الإنترنت والبريد الإلكتروني ذلك أن تلك التقنيات الحديثة وغيرها سهلت مهمة الباحث فهو يستطيع اليوم الحصول على المعلومة التي يريدها بطرق مباشرة وغير مباشرة من جميع أنحاء العالم فلا جمارك ولا نقاط تفتيش تحد من ذلك، وعلى الرغم من أننا نجد أن تلك الوسائل قد تم استخدامها والاستفادة منها في أمور شرعية كثيرة مثل البحث والتطوير، والطب والتعليم، والتجارة والإعلام، إلا أنها قد تم استغلالها وتشويه سمعتها من قبل عملاء المخابرات والتجسس في الأمور التكنولوجية والصناعية كما تم استغلالها من قبل الإرهابيين وخير شاهد على ذلك ما تقوم به إسرائيل في الليل والنهار من سرقة للأسرار العلمية والتكنولوجية المدنية والعسكرية ناهيك عن الإرهاب ونشره وهذا ليس بغريب عليهم فقد سرقوا الأرض وسفكوا الدماء قبل ذلك وبعده. 12 - نعم أننا نعاني من كوننا نمثل ورشة تدريب كبرى للأيدي العاملة الأجنبية فكم من الخبراء، والفنيين، والأطباء، والممرضين، بالإضافة إلى العمالة الفنية البسيطة قد اكتسبت الخبرة في جامعاتنا ومستشفياتنا ومصانعنا ومراكزنا البحثية وورشنا المنتشرة في جميع أرجاء الوطن وهذا حق لهم اكتسبوه من خلال عمل نحن استقدمناهم من أجله. لكن الغريب في الأمر أننا نبتر تلك الخبرة المتراكمة لديهم في كثير من الأحيان باسم السعودة. وأعني بذلك أننا عندما نريد سعودة وظيفة معينة نقوم بإلغاء عقد شخص ذي خبرة طويلة في التشغيل أو الصيانة أو البحث أو أي ممارسة مهنية تحتاج خبرة طويلة ثم نقوم بتوظيف بدلاً منه السعودي حديث التخرج عديم الخبرة وكان من الأجدر بنا أن نوجد الوسائل والطرق والأنظمة التي تمكن من توظيف السعودي إلى جانب المتعاقد ذي الخبرة الطويلة على أن يقوم المتعاقد بتدريب ذلك الموظف الجديد حتى يستوعب العمل وعند ذلك يمكن الاستغناء عن المتعاقد مع الشكر والتقدير. وبذلك نكون قد استفدنا ولو بصورة جزئية من خبرته المتراكمة والتي اكتسبها خلال عمله لدينا. نعم إن بتر تلك الخبرة عن طريق الإلغاء المفاجئ للعقد فيه كثير من الهدر وفيه عودة إلى المربع رقم واحد من حيث تأهيل الخبرة الوطنية في أي مركز أو موقع يعج بالمتعاقدين ذوي الخبرة المتميزة والشواهد على ذلك كثيرة. وفي الختام يمكن أن نقول إنه لا يمكن أن تقوم للصناعة الوطنية قائمة حقيقية وجذور وطنية دون مختبرات متطورة ومتقدمة للبحث والتطوير تعمل على تحسين الإنتاج وخفض التكلفة وايجاد البدائل المناسبة والاعتماد على الخامات الوطنية لذلك فإن توطين التقنية العصرية في جميع المجالات لا بد وأن يدعم من قبل جميع الجهات ذات العلاقة وأن يشد أزره بالخبراء والعلماء المتوافرين في المؤسسات العلمية المختلفة وخصوصاً الجامعات المنتشرة في جميع أرجاء هذا الوطن العزيز. والله المستعان. [email protected]