في عالم رُعوده طائفية، وبُروقه يضيء فيها تقسيم بعض البلاد العربية، يصبح الكلام باسم الدين عن افتراق الأمة تسويغاً لهذه الحال، ودفعاً إلى هذا المصير، وتسريعاً في وقوعه، تجري بنا سفين التقسيم باسم الدين، ونحن الذين طالما عزونا ما بنا من تفرق وشتات إلى الغرب واستعماره لنا! وحمّلناه كل ما نزل بنا، فهو أول المشكلات، وهو آخرها، نكاد نُرجع حين التحليل العميق! كل إشكالاتنا إليه، ومع مرور الوقت تحول الغرب في أذهاننا إلى آلة مفاهيمية تُسهل تفسير الأحداث والوقائع، وصار أقلّنا اهتماماً في مقدوره أن يركب هذه الآلة، ويبحث عن خيوط المؤامرة الغربية وراء كل حدث يجري لنا هنا وهناك، ولم يكن الزمن في صالحنا فكل يوم يمضي، وهذه القناعة باستخدامنا لها تتفشى فينا وتسري، وتختزل الواقع بتنوعه وتموجه، إنّ كل يوم تتصرّم ساعاته، وبأيدينا هذا الإطار الذهني، يُبعدنا عن أنفسنا نقدِها ومراجعة منظوماتها. إننا نعتني كثيرا بالفقه، ونتشاور حول مسائله، مع أننا لم نختلف حول قضاياه كما نختلف حول قضايا العقيدة! ولم نتحارب به كما تحاربنا بالعقيدة قديما وحديثا، لقد آن الأوان لأن نناقش عقائدنا المتنابذة بدل نقاش نوازل العصر الفقهية الحادثة!! لم يعد ثمة فرق بين كثير من النخبة وغيرهم في تحليل الأحداث بعد أن أضحت هذه الآلة المفاهيمية شعبية! يُفسّر بها غير العارف، قبل العارف، أحداث هذا العالم التي تخص المسلمين! وصرنا جميعا نتقن مهارة التحليل والتفسير، فقد جرى الاهتمام بهذه الآلة واللجوء إليها ما جعل الجميع يُجيد استخدامها، ويلجأ إلى توظيفها حين النظر إلى الواقع وما يدور فيه، فصار العقل فقيراً؛ لأن استبدادَ فرض به يجعل رؤيته ناقصة - بل مزوّرة بمقدار سلطة هذا الفرض عليه، وسارت بنا الحال إلى نكران ما تصنعه أيدينا ليل نهار، بل وضعنا العوائق أمام الإنسان المسلم أن يفكر من خلال غير الإطار المفاهيمي الذي نفسر به الأحداث!! فصارت هذه الإستراتيجية في تفسير الأحداث وقراءتها أساساً خرَسانياً، لا تستطيع أعتى معاول النقد أن تزحزحه، ولو قيد أنملة!! وحُقّ لنا بعد ذلك أن يُجمع معظمنا على الإيمان بهذه الرؤية للأحداث! وحق لها أن تكون أقرب إلينا من حبل الوريد! إننا كثيرا ما نسمع المقالة القانونية: المجرم بريء حتى تثبت إدانته؛ لكننا لم نستطع لإيماننا الراسخ بعداء الغرب أن نُعامله بها، فأول الفروض في البحث وراء الأسباب هو الغرب! وصار من يسعى لأن يُقدم رأياً مخالفاً للأصل متهماً في ولائه للإسلام وأهله وحبه لهما!! ومثل هذه الحالة الثقافية من الإيمان تكشف عن صورة بشعة من الإيمان بالنزاهة الجماعية! مع أننا - للأسف - نتحارب في الداخل والخارج، ويعزو بعضنا إلى بعض كل بلاء!! إننا نتصارع حول الأساس الأكبر، وهو العقيدة الإسلامية!! ويرمي بعضنا بعضاً باسم الدين، ثم لا نرى هذا سبباً من أسباب الفرقة والتمزق!! فماذا يصير هذا الذي يحدث بيننا إذن؟ إنّ حديث افتراق الأمة يأتي ليُتوّج عملية التصنيف، ويُدشن مرحلة جديدة! ينظر فيها المسلم من خلال النص وفهم سلف الأمة إلى مخالفه! إنّ الحديث وفهمنا له تغطية لكل ما يدور في هذه المنظومة وتلك من أن ترجع عليه عين النقد ويد الإصلاح، تغطية تتخذ اتجاهين؛ الأول في دعواها تمثيل النص، والثاني في دعواها تمثيل فهم السلف. إن الحديث يأتي اليوم ليُعطي هذه المذهبيات التي ترى نفسها الممثل جواز سفر مفتوحاً، ويُنهي التساؤل حول القدرة على المراجعة في منظومة كل تيار ديني! يأتي الحديث ليُوَظّف ويُجيّر في خدمة الجماعات في صراعها الديني، وبهذا يصبح النص مشجعاً للافتراق الديني على أيدي ذوي المذهبيات، الذين أرادوا حماية المذهبية ورفع تفاصيلها عن النقد فأوقعوا الدين ونصوصه في فخ تفريق الأمة!! وهم الذين ما برحوا يشتمون الغرب بمكائده التي أودتْ بالمسلمين، وفرّقت شملهم! إن بروز الاهتمام بالحديث عما كان عليه السلف، وتطويع النصوص لتخدم المنظومات العقلية الراهنة يحسن به أن يمر عبر قنوات عديدة قبل أن تجري بأصحابه رياح توظيفه، فثمة صراع في الداخل، وصراع في الخارج، صراع قديم وصراع حديث، صراع - إن استمر - سيقود في النهاية إلى أنّ أفضل الحلول المطروحة هي الانفصال، وتقسيم تلك البلاد العربية! فهل نزيد بالدين ونصوصه فتيل هذا الحريق الكبير؟ إنّ الظروف التي تعيشها تلك البلاد يُظن بها أن تؤجل مثل هذه المشاريع التقسيمية باسم الدين! لست أدعو - ولا أستطيع - أن تتخلى كل جماعة عن مباني مذهبيتها؛ لكني أدعو إلى إقامة نقاش موسع حول هذا الأمر الجلل، إن علماء الإسلام اليوم يجتمعون تحت مظلة مجمع الفقه الإسلامي في دراسة قضايا جزئية والنقاش حولها، أفلا تستحق العقيدة هذا الأمر؟! إننا نعتني كثيرا بالفقه، ونتشاور حول مسائله، مع أننا لم نختلف حول قضاياه كما نختلف حول قضايا العقيدة! ولم نتحارب به كما تحاربنا بالعقيدة قديما وحديثا، لقد آن الأوان لأن نناقش عقائدنا المتنابذة بدل نقاش نوازل العصر الفقهية الحادثة!! إن بناء ماكينة تأويلية من الغرب للأحداث المحلية في العالم الإسلامي كان هو السقوط الإسلامي والعربي المدوي! إن الانحياز الأكبر للذاتية في تأريخنا كان حين صرنا نفحص الأحداث والوقائع لا لنعرفها وما فيها بل لنتأكد من ضلوع الغرب في زراعتها ورعايتها، وهكذا صرنا دوما نجد الخيوط التي تقودنا إلى العدو الأكبر الذي آمنا إيمانا قاطعا بوقوفه وراء كل شيء، ولم يكن من همنا أن نعرف دورنا في الأحداث والوقائع فصرنا خارج دائرة الشك! فنحن أهل الوحدة والاجتماع والنزاهة والعدل والتقدم والإبداع لولا العدو المتربص!! لكن ما نقول لأنفسنا وعن أنفسنا، ونحن نرى ونسمع الآن تداعينا إلى هذا الحديث وتجالدنا به؟! إننا كالعادة سنخرج أنفسنا من المسؤولية، ونقول كما قال أحد أساتذة الثقافة: إنّ الذي يُمزق المسلمين، ويُشتت أمرهم هو ذلكم الإنسان الذي خرج عن النص وفهم السلف! فعليك أن تلوم أولئك الذين زاغت بهم فِطرهم عن الجادة، واستحوذ عليهم الشيطان، فسوّل لهم وأملى!! هكذا يظن هذا الرجل، وينسى أن الآخرين مثله في هذا القول! وهكذا نسمع هذه الموّالات في واقع تُذكرنا أحداثه بأنّ تقسيم البلاد العربية يوشك أن يقع، وكأننا نقول ما قاله الأول: بيدي لا بيد عمرو!! فليكن التقسيم بأيدينا إذن قبل أيديهم! ويبقى المحزن أن وجه الاختلاف الكبير بين تلك المرأة القديمة التي أُثر عنها هذا القول وبيننا اليوم أن القائل في القديم فرد، والقائل في هذا العصر ثقافة، وما حيلة المرء أمام الثقافة؟!