شهدت الكثير من الدول العربية وخصوصاً تلك التي كانت تحتكم لنظام جمهوري تحول مع مرور الزمن إلى أنظمة استبدادية متوارثة، أبعد ما تكون عن أنظمة جمهورية يكون فيها الحكم للشعب، ثورات عديدة مما حدا بالبعض إلى إطلاق تسمية "الربيع العربي" على هذه الحركات التي تمثل انتفاضة الشعوب تحت شعار المطالبة بالحرية والمساهمة الفاعلة في اتخاذ القرار. ومن دون الخوض في أصل تسمية "الربيع العربي" ومناسبتها للواقع الذي نعيشه, فإن السؤال الكبير يبقى عن مدى تحقيق هذه الثورات والانتفاضات الشعبية لطموحات الجماهير التي واجهت أجهزة القمع بصدور عارية رافعة شعارات الحرية والعدالة. ان سقوط الحكومات المتسلطة شيء وتحقيق المطالب الجماهيرية وتحويل الشعارات التي رفعتها الثورات إلى تغيير ملموس في واقع الناس شيء آخر هو بلا شك أكثر منه صعوبة. ولأجل أن لا يتحول هذا الربيع إلى خريف لا بد من الإدراك التام والتوعية العامة بأهم معايير النجاح التي يجب أن نتابعها مع مرور الزمن للتأكد من تحقيق هذه الثورات لتطلعات الشعوب, وهذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه العجالة. وبادئ ذي بدئ لا بد من القول ان الحكومات الثورية التي أحدثت التغيير في النصف الثاني من القرن الماضي قامت على أكتاف قيادات عسكرية وسياسية كانت ترفع شعارات مماثلة تريد تغيير ما رأت أنه واقع سيئ بما هو أفضل منه, لكنها سرعان ما فقدت الطريق ودخلت في متاهات لا طائل من ورائها مثل شعارات الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار والتحول الاقتصادي نحو الاشتراكية وغير ذلك. لكن هذه الشعارات سرعان ما تحولت إلى أدوات لتركيز الحكم في أضيق الدوائر. ولعل أحد أهم أسباب فشل الثوريين, وخصوصاً أصحاب الحركات السرية, أن بإمكانهم أن يرفعوا أي شعار وأن يتنادوا إلى أي هدف بغض النظر عن بعده وقربه من الواقع. إلا أن الكارثة حدثت عندما وصل الثوريون إلى الحكم وانتهجوا سياسات لم تذهب بعيداً عن من سبقوهم لأنهم وعلى العموم يتعرضون لنفس المؤثرات الخارجية والداخلية التي كانت تعمل على من قبلهم. ولكي لا تقع الحكومات التي أفرزها الربيع العربي في نفس المهالك التي وقعت فيها الحكومات الثورية التي سبقتها, كان ولا بد من وضع المعايير الحقيقية والمعالم المهمة التي تبين صحة المسيرة وصلاح الوجهة, ومن أهم هذه المعايير التالية: تغليب النظرة إلى المستقبل على الماضي, وهو المعيار الأهم في نظرنا الذي يضع الحكومات الجديدة على الجادة الصحيحة, ذلك أن الإنسان يسير بين قوتين هما قوة الجاذبية باتجاه الماضي وقوة الاندفاع نحو المستقبل. ومما يزيد في صعوبة تحقيق هذه في واقعنا اليوم حقيقة أن الماضي القريب تسبب للكثير من الناس بالمآسي والآلام التي تركت بصمات عميقة وجروحاً غائرة يصعب نسيانها أو تجاوزها , لكنا لا بد أن ندرك بأننا إذا ما توقفنا لكي نعيد الحق إلى نصابه في جميع الأمور فإن ذلك سوف يتسبب في إهمال قضية كبيرة اسمها المستقبل, ولقد صدق المفكر والسياسي ونستون تشرتشل عندما قال: "عندما نحدث صراعاً بين الماضي والحاضر, فسوف نكتشف بأننا أضعنا المستقبل," ويشبه هذا مقولة الكاتب جورج برنارد شو "أننا نصبح حكماء ليس بمقدار تذكرنا للماضي, وإنما بمقدار مسؤوليتنا عن مستقبلنا", و كما يخبرنا مالكولم أكس فإن "المستقبل يعود للذين يعدون له اليوم" وليس للذين ينبشون مآسي الماضي. وهذه تذكرني بمحادثة لي مع عمدة مدينة "هيروشيما" الدكتور "أكيبا" وذلك في مناسبة إحياء ذكرى إلقاء القنبلة الذرية عليها الذي أخبرني بأن أهل المدينة الذين كانوا يعانون من ويلات الدمار الذي أحدثته أول قنبلة ذرية تسقط على بشر, قد عقدوا العزم على البقاء وإعادة البناء ورفض الانتقام, وعندما سألته عن السبب وراء رفض الانتقام أجاب بأن حب البناء والرغبة في الانتقام لا يجتمعان في قلب رجل واحد, وأن على الناس الاختيار بينهما". إن الرغبة في توجيه أنظار الأمة نحو المستقبل وعدم الدخول في متاهات الماضي هي التي دعت الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يقول لقريش يوم فتح مكة اذهبوا فأنتم الطلقاء مع ما بينه وبينهم من دماء غالية على المسلمين مثل عم الرسول حمزة وسمية وياسر وغيرهم كثير رضوان الله عليهم جميعاً من المسلمين الذين قتلتهم قريش في محاولتها إيقاف مد الدعوة الإسلامية. إننا هنا لا ندعو إلى نسيان الماضي وإنما يجب أن نقيم العدل في جميع المواقف, وكل ما يتطلبه ذلك هو إقامة القضاء العادل المستقل ومنحه المساحة والاستقلالية الكافية لكي يقوم بعمله, من دون التظاهر وسعي كل فرد أو جماعة لتحقيق مفهومهم للعدالة. كما أن للماضي فوائد مهمة لا غنى لأية أمة عنها ومنها استلهام الدروس والعبر وعدم تكرار الأخطاء التي حصلت في الماضي, ومقولة الرئيس الأمريكي الأسبق تضع التوازن بين القوتين في مكانها الصحيح عندما قال, "في نفس الوقت الذي أستلهم فيه الماضي, فأنا مثل معظم الأمريكان, أعيش للمستقبل". وضوح المشروع الوطني مقابل المشاريع الأخرى: وهذه من الدروس المهمة التي نستلهمها من الماضي وهي انكفاء الحكومات الثورية السابقة وراء مشاريع ديماغوغية لا علاقة لها بحياة المواطن ولا تطلعاته, وكان غياب المشاريع الوطنية التي تجمع الناس على تحقيق المصالح الآنية والبعيدة لتبني المستقبل المشرق لأبنائها هي ضحية كل ذلك, وكان السبب ربما يعود إلى صعوبة وضع الصياغة الصحيحة لهذه المشاريع ناهيك عن تحقيقها ولذلك وجدت الحكومات السابقة سهولة الهروب إلى الأمام وراء حروب مفتعلة لا نهاية لها مع الأعداء. إن الطريق الصحيح أمام الثوار الجدد هو الاتعاض من الماضي وعدم تكرار نفس الأخطاء وذلك بوضع مشروع وطني يجتمع عليه جميع أبناء الوطن الواحد بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، العرقية والمذهبية, آخذا بنظر الاعتبار معطيات الواقع, راسماً طريقاً واضحا لتحقيق طموحات الشعوب مع إدراك كامل لكل العقبات التي تعترض الطريق. الصبر وعدم استعجال النتائج: إن الغاية من وضع معايير النجاح هي إدراكنا بأن الطريق طويل, وأن الخراب الذي أحدثته عقود طويلة من الزمن لن يمحى بين عشية وضحاها. ذلك أن حياة الأمم تسير بحسب سنن ربانية لا تحابي أحداً, ومصداق ذلك الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه, والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون". ولعل المقصود من ذلك بأن حياة الأمم تسير وفق سنن ربانية لا تحابي أحداً فوق آخر, والمطلوب هو إدراك هذه السنن ومعرفة كيفية عملها في حياة الأمم من دون استعجال للثمار. إن التغيير الذي أحدثته الدعوة المحمدية لم يؤت ثماره إلا بعد سنوات من البناء. الشفافية والسمو فوق المصالح الآنية: إن المشكلات التي خلفتها الأنظمة البائدة والتي في طريقها إلى الزوال كبيرة ولم تأت من قبيل الصدفة بل بسبب انغماس القيادات في تحقيق مصالحها الذاتية وتقديمها على مصالح الشعوب, ولذلك فإن المرحلة المقبلة تتطلب قيادة واعية تمتاز بالعلم والتجرد والإخلاص, وكل هذه صفات لم تتوفر بالقيادات السابقة. ومن أهم صفات القيادة الحقيقية العلم والزهد وتدل عليها مقولة الأعرابي الذي جعل رئيسهم يسودهم لعقود من الزمن فقال مقولته المشهورة, "استغنى عن دنيانا واحتجنا إلى علمه." إن الزهد لا نعني به العزوف عن الدنيا, وإنما نريد به الزهد الحقيقي الذي يجعل من القائد متجرداً لعمله غير مندفع وراء تحقيق مصالحه أو مصالح حاشيته, فالقيادة الحقيقية سيأتي من ورائها الخير الكثير الذي سوف يغمر الأمة بوافر النعم إذا ما تجرد الجميع لتحقيق أهداف الأمة, ومصداق ذلك أن المسلمين عندما انتصروا على الفرس وحُمِلت كنوز كسرى وجواهره إلى المدينة , ورآها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - استعظمها وقال : "إن قوماً أدوا هذا لذووا أمانة" فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه : "عفَّ الرّاعي فعفّت الرعيّة", ولو رتع عمر رضي الله عنه لرتعت الرعية. هذه بعض الخواطر التي نضعها في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها الأمة, لعل فيها الفائدة, والله من وراء القصد وهو ولي التوفيق. * سفير العراق لدى المملكة