كانت أحداث بورسعيد أو ما بات يُعرف ب»المأساة الرياضية» من أكثر الصدمات التي واجهتْها مصر منذ ثورة 25 يناير في العام الفائت، والصدمة جاءت لتضع المصريين أمام رهاناتهم الخاصة بمستقبلهم، لأن مخاضات مرحلة ما بعد الثورة تتصاعد، الإرث الثقيل الذي خلّفه نظام حسني مبارك لايمكن تجاوزه إلا بوعي المجتمع المصري، وتغليب العقل على العاطفة، كل الجُمع التي أُحييت طوال الأسابيع التي أعقبت الثورة كانت ضمن «الترف السياسي» لم يكن لها أي معنىً أو جدوى أو فائدة، وحين تضخّمت التظاهرات في مصر بعد الثورة وصارت سلوكاً يومياً تفاقم التأزم، من أحداث ماسبيرو إلى أحداث بورسعيد، والمخاضات التي أعقبت الثورة توحي بأن مصر تتراجع سياسياً وأمنياً ولا تتقدم. التواجد الدائم بالميادين والشوارع باللافتات والتظاهرات خلال الأشهر الماضية هو أساس التوتر الحاصل الآن في مصر، ولا ننسى أن شرارة الاشتباك الطائفي بين الأقباط والمسلمين قد تشعلها الميادين، ذلك أن وصول الحزب الإخواني إلى البرلمان باكتساحٍ كبير ومن ثم قبضهم على مفاصل السلطة في مصر ربما يجعل الأقباط في حالة توجّس وتحفز، حتى يمكن أن يشتبكوا ضمن معارك في الشارع بسبب أي حدثٍ مهما كان بسيطاً. أحداث بورسعيد كانت شرارتها رياضية وهي أقل خطورةً من الشرارة الطائفية، بمعنى أن طاقة الاشتعال تنتشر في الهواء، وبمجرد انقداح شرارةٍ من أي مكانٍ فإن المآسي ستكون ماثلةً في المسرح المصري، والحل في نظري في الوعي بضرورة إنهاء الحالة العاطفية والانتقال إلى درس المرحلة القادمة استراتيجياً واجتماعياً، والبدء برسم الأحلام لمستقبل مصر، سواء أكانت الأحلام كبيرة أم صغيرة. ويمكن للمجتمع المصري أن يخرج من المأزق الحالي باتخاذ عدد من الإجراءات السياسية والأمنية والفكرية، ويجمع بين كل تلك الإجراءات ترسيخ الوعي الاجتماعي المصري بالمستقبل.. وأختصر تلك الملاحظات لتأسيس وعي مصري جديد من خلال المحاور التالية: 1- إنهاء حكاية «فلول النظام» فنظام مبارك بسقوطه أصبح منتهياً، والمجرم الموجود في الشارع يحاكم طبقاً للأنظمة المصرية، التركيز على مفردة فلول مبارك ونظامه يعني أن البلد سيبقى على كفّ عفريت لسنواتٍ طويلة، وإنهاء هذه الجملة وتقنين استخدامها يعني الرجوع إلى جملة القانونية فكل متهم أو مفسد يحال إلى المحاكم من دون الحاجة إلى تشخيص هوية المجرم على أساس الرعب من فلولٍ مختبئة لا تزال تريد بالنظام المصري الحاكم الحالي الفساد، من يجرم يقبض عليه ويحاكم لكن من دون الاضطرار إلى استخدام الأحداث سياسياً وربطها بنظام مبارك الساقط أصلاً، والذي لا مصلحة لأحدٍ في الدفاع عنه وقد آل إلى ما آل إليه. 2- إنهاء الصراع بين المجلس العسكري والإخوان، ذلك أن من راقب الوتيرة السياسية التي كانت عليها مصر قبيل أحداث بورسعيد يكتشف وبدقة أن الصراع بين المجلس العسكري والإخوان فاقم من التأزم الاجتماعي، وألّب الرأي العام وحوّله إلى فسطاطين، بين فئاتٍ تخاف من مستقبل مصر إذا حكم الإخوان وتتمنى هذه الفئات بقاء المجلس العسكري أطول وقتٍ ممكن، وبين فسطاطٍ يرى أن الإخوان هم الخيار الأنقى والأكثر إيجابيةً على المستقبل المصري، ويتصاعد الانقسام ليصل إلى حدثٍ كارثيّ، أو مجزرةٍ مؤلمة، أو اضطراباتٍ مكلفة، فالإخوان لا يزالون في بياناتهم وتصريحاتهم بعد أحداث بورسعيد يلمّحون إلى المجلس العسكري، ولا ينسون بالطبع إحالة كل سوءٍ بمصر إلى فلول النظام السابق، أو تراخي المجلس العسكري، والشعب تائه بين هذا التجاذب الحاد. 3- من ميادين الأرض إلى ميادين التنمية، هذه هي الرحلة التي يحتاجها المصريون في هذه المرحلة، ولأننا خارج السياق العاطفي الذي يظلل مصر خاصةً وأن الأحداث وقعت في فترةٍ قريبةٍ من ذكرى الثورة حينها كانت العاطفة على أشدها فلم تلبث أن أخذت الأحداث منعطَفها الخطير، وساعد على ذلك الاشتعال عاملان اثنان، أولهما: التواجد الدائم في الميادين، وثانيهما: الانقسام الرياضي الذي ذكّرهم بالانقسام السياسي، فالرحلة من الشارع إلى المكتب أو المصنع أو المتجر هي خير ما يفعله المصري لوطنه، نقول هذا لأننا خارج سياق العاطفة ونرى المشهد بوضوح من خارجه. مأساة أن نرى مصر الرائدة سياسياً وثقافياً وأدبياً وقد عقّها الأبناء باسم استمرار الثورة حتى لم تعد تتنفس تنميتها.. وأختم مقالتي بين خوفٍ وأمل، وأتمنى أن يغلب الأملُ الخوفَ في خضم هذا الصراع المرير والأحداث العربية الغريبة بمفاجآتها وأحداثها..