ليس مهما أن نقول إن رواية هدى بركات الجديدة "ملكوت هذه الأرض" دار الآداب، تقوم على الشعور المكثف بالمكان، او أنها رواية بيئة او تاريخ، فكل تلك الأوصاف تصلح لهذه الرواية، بيد ان اللافت فيها محاولتها استعادة مسرودات مجتمع الجبل أو الضيعة المسيحية اللبنانية، وتحديدا قلب لبنان الماروني الذي تشكلت من خلاله هوية هذا البلد ومعالم حداثته. ربما نجد في الكثير من الروايات التي كتبها اللبنانيون من طوائف مختلفة، مشتركات مع هذه الحكايا والموتيفات، ولكن رواية بركات وهي تلف وتدور حول تاريخ منطقة الشمال أو غابة الأرز المقدسة، تجد في مطارحها الخلفية ما يساعدها على رصد الجوهر الشعبي للدين في انثربولوجيا التقاليد والعادات والطقوس: عقليات الناس وطرق عيشهم، ولاءاتهم وتعصباتهم. لم تشتغل الرواية على تغريب تلك الحكايات، بل جعلت منها سيرة شعبية، بكل ما تنطوي عليه هذه السيرة من حرية في التعامل مع اللغة المحلية، وتخييل الثقافة الشفاهية للمنطقة والتلاعب بالتواريخ. التواريخ المتباعدة تتجاور من خلال مرويات الشخصيتين الرئيسيتين، والمكان يبتعد ويقترب من خلال أزمنة الضيعة التي تتبدل بين مفصلين : طقس الموارنة الاعتقادي، والمد التبشيري، وحرب الطوائف والأديان بلبنان. ومع ان الإطار الداخلي للرواية يتمركز حول سيرة عائلية، غير ان المسار السردي يتبع برنامجا متعدد الأوجه في ابراز نقاط الالتقاء والتفارق ضمن علاقة الجماعة مع المحيط، سلامهم وحروبهم، مراجلهم وأغانيهم وأشعارهم. ذلك التاريخ الذي يُخترق بفعل الثروة التي يجلبها المهاجرون، ومشاريع العمران الغربي التي تحوّل المزارعين الفقراء ومالكي الأرض إلى مستثمرين في اقتصاد السياحة والمصالح الحديثة. ثلاثة أصوات تتولى سرد الحكايات، الراوي وسلمى وطنوس، والاثنان لعائلة من الفلاحين الذين يفقدون جزءا كبيرا من أرضهم بعد أن يموت والدهم في عاصفة ثلجية، ويستولي عمهم المتنفذ على تلك الأرض. ولكن سلمى التي تصبح راعية لاخوتها وأخواتها بعد وفاة والدتها، تجري على لسانها معظم الحكايات، فهي المبادرة في فن العيش وهي الراعية لفكرة التأقلم مع المحيط، وهي المضحية بشبابها من أجل ان يعيش اخوتها وتستمر الحياة. وجهة النظر التي تسوق أحداثها سلمى لا تصرفنا عن بانوراما العرض الذي يجري من خلال الحوارات والوصف والمنلوج. تدخل بعض الشخصيات وتخرج من هذه البانوراما دون ان يكون لفعلها غرض سوى خدمة القص الارتدادي أي الذكريات المنثالة في منلوج الشخصية، او الوصف او الحوار، وهذا يعزز الاعتقاد بحضور قوي للذاكرة الشخصية للمؤلفة ابنة المنطقة. ولكن الرواية بقيت حائرة بين بناء منطقي للزمن الكرنولوجي في تطور السلالة العائلية، وآخر يحاول توسيع دائرة القص إلى ماهو أبعد من ضيعة او سلالة عائلية. فالسارد والأصوات التي يمثلها، يعلن التحول في المشاهد من عمل الذات الفاعلة التي تحقق انجازا، إلى الذات المستلبة العاجزة عن ايجاد حيز شخصي لها، او انتماء الى مكان أكبر من مكانها، وحتى عندما ترحل بعض شخصيات تلك القرى إلى بيروت أو الغرب وافريقيا، تعود إلى الضيعة لتستأنف سيرتها الأولى. لعل التضحية بالمفهوم المسيحي، التي تتلبس الشخصيتين الرئيسيتين، سلمى وطنوس، تغدو أقرب الى تمثّل الزمن الراكد في حياة تشهد تطورا متسارعا، فرغم فاعلية سلمى وانخراطها في عمل يعود إلى عمها المتسلط، وقدرتها على تحقيق التماسك العائلي، تبقى عاجزة عن ان تجد لها سوى وظيفة هامشية في الحياة، فهي لا تملك سعادة شخصية وكل أفراحها تستمدها من أفراح الاخرين. ولكنها تبقى رمزا للضمير والحكمة، إزاء طنوس الأخ الذي لا يجيد سوى الغناء والعيش على هامش الحياة. يُرغم الأخ على الرحيل الى الشام، ولكنه يعود خالي الوفاض إلا من بقايا حب مسلمة تشبه حبيبته الأولى أو قريبته التي أضاعها بعد أن قتل جنديا فرنسيا وهرب من المكان. العلاقة مع الأغراب، الأجانب خصوصا، والشيعة من أهل بعلبك، تصبح احدى ثيمات الرواية، رغم ان الطابع التهكمي للسرد، يخفي وجهة النظر تلك، فهي حكاية بين مسرودات كثيرة تحدد للمكان انتماءات منوعة، بما فيها التنافر بين الموارنة والزغرتاويين، اي المسيحيين من الكنائس الاخرى، وهي في الغالب علاقات صراع واحتراب تتخللها هدنات وحروب وتصفيات. إدراك الذات الفردية في الرواية، يجري عبر تحديد وجهة النظر الجمعية ومواقفها من الآخر الغريب، أي ان البؤرة المركزية للقرائن التي تسوقنا إليها المواقف، لا تتحدد بموقف متعين للشخصية، قدر ما تتمظهر بتصرفات تكمن وراءها العادات والتقاليد. التقاليد كما تبدو في الرواية قد تشكلت ضمن قانون الكنيسة وتعاليمها، رغم ان التدين الشعبي في الرواية يحفل بمفارقات مضحكة في علاقته بالكنيسة، غير ان البعد الاعتقادي في حياة الناس أحد محركات سلوكهم ومحفزات أوهامهم وانغلاقهم. يتغير المكان بفعل التحول الحداثي، ومع مجتمع الرفاه والثروة يتقلص دور الدين: " كانت حياتنا سلسلة من الأفراح. حتى بتنا نتساءل عن كيفية تدبّرنا لهذا المد الجارف من الحظوظ والأقدار السعيدة حتى لا يفوتنا شيء منها. غادرنا شعورنا بالذنب وقرب الحساب وتوقع الأسوأ كلما كنا نفرح أو نضحك أو نسعد. ذلك أصبح من الماضي. ونسيناه. " تحولت تلك المرتفعات المعزولة بالثلج والقرى المتباعدة والحياة الشحيحة، إلى طرق معبّدة وفنادق ومراكز للتزلج وكازينوهات وكابريهات يصدع فيها الغناء والرقص. وانسلت بعض فتيات الضيعة من حياة القرية إلى حياة اللهو او التنسك في الأماكن البعيدة. فكرة الاقتلاع او الرحيل عن المكان، لا تقابلها سوى ثيمة تغير المكان نفسه، حيث غدا " الخوري لا يستمع إليه سوى العجائز والعوانس " تصعد فئات جديدة وتختفي القديمة، بيد ان تلك المطارح الجديدة لا تتقدم في الرواية عبر نموذج الذات الفاعلة، فتبقى الشخصيات الرئيسية قادرة على رصد الحركة الخارجية للتطور، دون ان يستطيع القارىء متابعة هذه الفكرة في عمقها الزمني والروحي للشخصية نفسها. لا يبذل المتلقي في هذه الحالة، جهدا استدلاليا كي يدرك مضمرات الكلام او ما يكمن خلف المصرح به من دلالات، لأن الوصف والحوار والمنلوج، يقدم له لحظة التطور المتحركة التي تحفل بالتباساتها، وكأنها تجري على سطح المرئيات لتمر سريعا في مشاهد خاطفة من خلال موشور الشخصيات التي تعجز عن اللحاق بها، او يستحوذ عليها هاجس المكوث في الماضي. ربما يتعين علينا ان نجد في أفول حياة سلمى وطنوس في البيت القديم، تورية لاستمرار فكرة العزلة، رغم كل ما جرى من تطور، حيث الضيعة تبقى غير قادرة على تعريف نفسها خارج محليتها الضيقة.