اليوم نرى الكثير من الكتب المنتشرة على أرفف المكتبات ولكن يجب أن ندرك أن تراكم الفكر والمعرفة وتناقلهما بين الأجيال هو الذي سطر تلك الكتب وتلك الصفحات على مر التاريخ وأصبحت المعرفة الإنسانية تنتج وبشكل متسارع يفوق التوقعات الأمانة في العلم هي المركز البصري والسمعي والعقلي له في المجتمع.. وإذا تخلص المجتمع من عمل هذه المراكز المهمة ذابت الأمانة في العلم وتم استسهال تجاوزها، فعندما كنا طلابا في الجامعة وما بعد الجامعة كانت مواد الأمانة العلمية هي أهم المواد التي ندرسها وهي لا تسمى كذلك وإنما تدخل تحت مسميات مواد الإحصاء تارة، وتحت مواد البحث العلمي تارة أخرى ولكنها حقيقة هي مواد تختص بحفظ الأمانة العلمية فقد كنا نتعلم كيف نستفيد من كتابات من سبقونا، وكيف نكتبها وننسبها إليهم بطريقة علمية تفصل بين ما نكتبه نحن، وبين ما يكتبه آخرون. هذا بالنسبة للرسائل العلمية والبحوث وهي كذلك بالنسبة للكتب والمؤلفات ولكن السؤال المهم يقول: لماذا يجب أن تكون هناك أمانة علمية، ولماذا يجب أن تنبع هذه الأمانة من ذات الباحث أو المفكر آو المؤلف..؟ الجواب على ذلك بقدر ما هو سهل في ظاهره إلا أن في جنباته الكثير من الحقائق التي يجب أن نعلمها ونتعلمها في المجتمع وخصوصا في مؤسساتنا التربوية من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة. قبل آلاف السنين أنتج العلماء والمفكرون في كل أصقاع الأرض أفكارا وكتابات بقيت تنسب إليهم مع مرور الوقت وتقادم الزمن فما قاله ارسطو أو سقراط من كلمات وما ألفه ميكافيللي أو ابن خلدون أو ابن سينا كل ما قاله هؤلاء مما أثبته التاريخ ونقلته الأمانة العلمية إلينا بقي حياً محفوظا بيننا لا احد يستطيع أن ينسبه إلى نفسه أو الى فكره لأن خلف ذلك سداً منيعاً من التاريخ والأمانة العلمية. لقد ثبت عبر الزمن أن التراث الفكري المكتوب أكثر مصداقية من الآثار المحسوسة لان التراث الفكري المكتوب هو اللغة الوحيدة التي نستطيع أن نفسر بها الماضي المادي أو غير المادي ولذلك فكل فكر لا تسنده الأمانة العلمية يظل فكرا تفوح منه رائحة نتنة يستنشقها صاحبها على أنها واحدة من أجود أنواع العطور بينما هي في الحقيقة كريهة المنظر والرائحة. العلم مسرح كبير ومسار تاريخي طويل وكثيرون من العلماء ساهموا في إضافات جديدة لهذا العلم ولكن ما بقي لم يكن سوى العلم الحقيقي الذي غير في البشرية أو غير في بعض أفرادها وبقي صامتاً معروفاً قائله وكاتبه وشاهده عبر التاريخ ولكن ظواهر ضعف الفكر ومصادره تنبت فجأة في كثير من المجتمعات ودون مقدمات.. ولعل لذلك أسبابا كثيرة يمكن مناقشتها للوقوف على تلك الظواهر المقلقة للمجتمع. اليوم نرى الكثير من الكتب المنتشرة على أرفف المكتبات ولكن يجب أن ندرك أن تراكم الفكر والمعرفة وتناقلهما بين الأجيال هو الذي سطر تلك الكتب وتلك الصفحات على مر التاريخ وأصبحت المعرفة الإنسانية تنتج وبشكل متسارع يفوق التوقعات وهذا التسارع قد يفتح الأبواب أمام صيادي الكلمات والأحرف لكي يبنوا من تلك المعرفة مجدا عبر تأليف الكتب وبيعها على البسطاء وخصوصا أولئك الذين صنعت شهرتهم ليس بسبب فكرهم وإنما بسبب انتماءاتهم لأفكار بعينها . السؤال الجديد المهم مع هذا التزاحم الكبير للمعرفة هو اعتقاد الكثيرين من المؤلفين بأن مؤلفاتهم بعيدة عن التمحيص لمجرد أنهم يحظون ببرستيج اجتماعي، ويعانون مما يمكن تسميته بطر التأليف الطباعي حيث يلجأ الكثير إلى مجموعة من الكتبة وليس المؤلفين ليسطروا له كتابا لم يقرأه المؤلف وقد يكون راجعه قبل الطباعة بساعات ولكنه لا يعلم مصدره الحقيقي. في مجتمعاتنا وخلال العقود الماضية اكتسحتنا الكثير من الظواهر ولعل من أهمها تلك الظواهر التي ساقتها الصحوة ، وفي اعتقادي أن من أهم منتجات الصحوة السلبية مع وجود مقتضب لمنتجات إيجابية لظاهرة الصحوة ، ظاهرة الكتيبات والتأليف السريع حيث سيطر وبشكل كبير على الساحة المجتمعية فقد حظي إنتاج تلك الكتيبات بتسهيلات قانونية كبيرة من حيث المراجعة والإجازة المجتمعية والفكرية فأصبح بالإمكان إنتاج كتيبات من - الرأس إلى المطبعة - دون فحص آو تمحيص أو مرور على أجهزة رقابية. هذه الكتيبات وبعضها كتب تم التسهيل لها بالبرستيج الاجتماعي أحيانا، وبالبطر التأليفي أحيانا أخرى لم تخضع وبشكل دقيق إلى كثير من المناقشة أو التحليل أو حتى الرقابة فأصبحت فكرة النسخ والطباعة فكرة منتشرة ما جعل عملية التأليف أكثر سهولة من غيرها لأنها لا تتطلب أكثر من عاملين ومصححين يقطعون ما هو موجود للصقه مرة أخرى بأسماء مؤلفين جدد. هذه العملية سهلت الكثير من المهام واستسهل الكثير فكرة الأمانة العلمية ليس بقصد ولكن بتهاون مبني على أن المؤلف له مكانته الاجتماعية أو الفكرية فلذلك هو حر يفعل ما يريد دون محاسبة، وهنا مكمن الخطر فأكبر الآفات التي من الممكن أن تصيب المؤلفين هو إحساسهم بأنهم أصبحوا كبارا على التأليف والمؤلفين، وأصبحوا مخولين لكي يفعلوا ما يشاؤون بتلك الكلمات التي يجدونها مسطرة على صفحات الإنترنت بشكل خاص. لا أحد معصوماً عن الخطأ وهذه فرضية بشرية لا يستثنى منها إلا الأنبياء ولكن الأخطر من هذا كله أن يستمرئ الخطأ من هو ليس معصوماً عن الخطأ، ويكرر ذات الخطأ مرة ومرتين وثلاثاً تحت ظلال المجتمع وخصوصاً إذا كان ممن يملكون مؤيدين لمنهجه وممن صنعوا أتباعا لا يدركون شيئا من الحقيقة. حيث يلجأ الكثير من المؤلفين الذين يقعون في الفخ إلى إرسال أتباعهم إلى موقع الجريمة وخصوصا الكترونياً للطم على الظلم وتنزيه ذلك الكاتب أو المؤلف بكل الوسائل وهذا صحيح إذا كان العمل قائما على إظهار الحقيقة أما إذا كان لدفنها فهناك تبدو المشكلة. إن ظاهرة التأليف مهمة لتطور المجتمعات ولكن يجب أن ندرك أن هناك فرقاً بين مؤلفات لا تضيف للعلم سوى صفحات، وبين مؤلفات لها قيمتها الحقيقية وليست مجرد تكرار لفكرة أو استعارة إجبارية من أفكار سابقة.. إن الكثير من المؤلفين قد يتعرضون للظلم والاتهام نتيجة أعمال اقترفوها في مؤلفاتهم، وقد تكون لديهم المبررات لما قاموا به وقد يدافعون عن أنفسهم ولكن ذلك لا يعفيهم أبدا من شجاعتهم الأدبية بأن يعترفوا بما أقدموا عليه ويتحملوا تبعات ما عملوا.