اعتادت معه أن تروّض المرارة.. وتتعايش مع الوجع بقناعة وثبات. ليس لأنها لا تدرك ما هي فيه، وليس لأنها لا تلتقط حبات الحقيقة المبعثرة في كل الزوايا أمامها، ولكن لأنها تعتقد أن ما تبقى لديها من الصبر يكفي للوصول إلى تتبع طريق الحقيقة التي أرهقها البحث عنها. بدت أمامها بعد زمن أكثر وضوحاً، اقتربت منها وهي التي عاشت زمناً طويلاً تتباخل عليها، وتتبع طريق التيه والسراب رغم اقترابها منها. قررت أن تتبع طريق الحقيقة كما يقال في الحكمة حيثما أخذتها، هذا القرار لم يأت في يوم واحد، أو عام، لكنه انفجر حاملاً معه وجع السنين التي عبرت، وآلام امرأة أثقلها الوجع، وعذبتها لحظات طويلة من الاستهتار بقيمتها وكرامتها وأحاسيسها. انتُزع منها كل شيء بإرادتها كما تشعر الآن، وخُطف منها كل شيء وذابت كل أشرعة استعادة أي شيء، تخيلت انه لم يبق لديها ما يمكن أن يدفعها بعد كل هذه السنين إلى المقاومة، وإلى استعادة بعض الحياة التي تسربت منها.. حاصرها خوف رهيب بأنها لن تعرف الطريق الصحيح بعد هذا الزمن.. ولن تستطيع أن تمشي في دروب اعتقدت أنه الوحيد الذي يعرفها.. ولن تمتلك حق الشكوى والاحتجاج.. غيّب صوتها.. واغتصب طلباتها في البداية.. ومن ثم لم تعد لها طلبات ولم تعد تشتكي.. أو تحتج.. أو تتوقف.. فقط تشبعت بالأسى وغمست كل دواخلها في المرارة. نسيت تماماً انه من الممكن أن يكون لديها ما تستطيع أن تدافع به ذات يوم. تجاهلت قدراتها، والتي كثيراً ما كانت تعتقد أن صديقاتها يبالغن في تقديرها. غرقت في أخطائه.. وانغمست في تجاهله ونسيانه لها - لكن استمرت في مكانها ترى كل شيء ولا تتعلم من أي شيء.. ولا تصحح ما يجور به عليها. تبتلع المرارة تلو المرارة بقدرة غريبة، وتتعايش معها، لأنها ببساطة كما تشعر لن تكون قادرة على كسر هذا الطوق، أو حتى ملامسة داخلها لتعرف هل تبقّى لديها شيء؟ هل تمتلك ما يمنحها القدرة للقفز من السفينة، بدلاً من الانتظار ومتابعة تفاصيل الغرق بعد أن غادرها الجميع؟ آمنت أخيراً بالخيار الحقيقي للحياة، وتذكرت ان جوهر الحياة يكمن في الخيار، وأن على المرء ألا ينتظر من يفتح له الطريق ليحصل على ما يستحق.. تواءمت مع هذه الفكرة ورضخت لها وبحثت عما تستحقه وليس ما تريده، شعرت بأنها لابد أن تعود إلى ذاتها، بعد أن عاشت سنوات مهجّرة ومقتَلعة من جذورها بإرادتها. موجع ما تشعر به.. وموجعة هذه المرارة التي تسري في الأعصاب والتي تمنح النفس إحساساً تتوقف أمامه وهو أن النفوس التي يعبر عليها الأسى لا تشفى ابداً، وبالتالي تحتاج إلى معجزة لتتخلص من كل آلامها. لم تؤمن بالمعجزات.. فقط آمنت بالاستسلام، واجتهدت في تفسيره فهو تضحية أحياناً، ومرة أخرى صبر، وأخرى لا بديل غيره، ولم تتوقف أمام عبارة أن الاستسلام ضعف، وعليه جدل كبير ومن الممكن تشخيصه وتجاوزه لتصل إلى حقها في الحياة الذي لا يقبل الجدل ولا التفسير، ولا الاجتهاد للحصول عليه. في لحظات إضاءة حقيقة ما تريده وتسعى إليه وتستحقه، وبعد سنوات من الحياة المستهدفة بالاضطراب المجاني، أصبحت المواجهة هي لون الأيام القادمة، بعد أن كانت الآلام هي التي تصبغ الأيام.. لم تقل له.. لقد حذرتك.. لو حاولت أن امنحك الفرص تباعاً؟ لقد بذلتُ كل ما لدي من أجل تغييب هذه اللحظة التي أغادر فيها، من أجل أن لا ألامس لحظة الانفجار تغادر دون صراع.. ودون مناوشات.. ودون بحث عن حقوق بعد أن أهدرت لها أشياء كثيرة لا تفكر في تذكرها .. تغادره مع إيمانها انه لن يتغير.. ولن يقرأ كتاب موقعها السابق في حياته.. تغادر والطريق المفتوح يمثل تحدياً قاسياً لها وتؤمن أن لا شيء يدوم ويستمر إلى الأبد.. ومن المؤكد أن الوقت قادر على تجفيف كل الأوجاع حتى وإن ظلت ملامح الأسى تغلّفها..!!!