الكثير منا عندما يسمع كلمة (الحوار) يتبادر إلى ذهنه كلمة (الحرية) أو (الديمقراطية) وأنا هنا لست بصدد التفريق بينهما وسواء تحدثنا عن الحوار أو الحرية أو الديمقراطية كمرادف للحرية وكما يرغب بعض المتعصرنين في استخدام كلمة الديمقراطية فإنني أقول: إنه لا بد ابتداءً من تشكيل المرجعية من خلال معرفة الوحي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأننا إذا لم نشكل هذه المرجعية افتقدنا المعيارية واهتز عندنا مركز الرؤية وانعدم عندنا الهدف ولم نحقق الإطار المرجعي لمعرفة الوحي وجاء هذا السيل الجارف والزبد الطامي من (الآخر) في دراسة قضايانا وتحليلها من خلال رؤيته الحضارية، عندئذ أمكنه استلاب عقولنا والتحكم في ثقافتنا من خلال التطور المذهل الذي حصل له في كافة المجالات وأعاد (الآخر) صياغتها وإنتاجها وتصديرها حاملة أهدافه وقسامته الحضارية والثقافية في ظل بطيء الحركة الحضارية والثقافية التي لا تعكس ولا تتماشى مع الواقع الإسلامي المعاصر.. بل إنها توقفت منذ زمن بعيد وأحدثت فراغاً هائلاً تمدد من خلاله (الآخر). إن التأصيل الشرعي للحوار يتطلب منا مساحة واسعة من صفحات الجريدة ولعل في المقدمة الآنفة الذكر ما يعزز مرجعية الحوار وأساس قبوله بعيداً عن التفصيل الذي قد يجده القارئ في غير هذه المساحة. إن الحوار توأم الحرية لا ينفصلان عن بعضهما، فكما أن الحرية قائمة على أساس منهجي تخدمها مؤسسات وجامعات ومراكز بحوث ودراسات ومعاهد علمية وتطويرية وتدريبية أنفق عليها المليارات ونمت وتطورت مع نمو وتطور المجتمعات.. فإن الحوار - وهو توأم الحرية - لا بد له أن يمر بنفس المراحل وينفق عليه الأموال الطائلة ويؤمن له المناخ المناسب للانتشار والتغلغل في كافة طبقات المجتمع ولعل المجالس التشريعية والصحافة ووسائل الإعلام من أهم أدوات الحوار التي تضمن حرية الرأي والرأي الآخر الذي يخدم الحقيقة ويقصد به النفع العام. وما علينا إلا أن نشجع مثل هذا التوجه من خلال توفير البيئة الملائمة التي تساعد الحوار على النمو والازدهار وتشجع الرأي الآخر بدلاً من اقصائه ووأده في مهده.. يقول فولتير: (قد اختلف معك في الرأي، ولكن أدفع عمري ثمناً لتقول رأيك). كيف يكون الحوار؟ الحوار هو العامل الذي يغذي التطور الإنساني بكافة أشكاله، واعتباره سلوكاً حضارياً ومثالياً في إبراز التقدم الحضاري والثقافي والاجتماعي والسياسي مع ضرورة استبعاد الغرائز العدوانية التي تغذي أشكال النزاعات المختلفة. وحتى يكون الحوار - على مستوى الأفراد أو الجماعات - قوياً ونجاحاً في التوصل إلى نتائج إيجابية والقضاء على أسباب النزاعات واستئصال شأفتها من جذورها فإنه لا بد له من قواعد وشروط للوصول به إلى بر الأمان وتفعيل نتائجه للصالح العام بعيداً عن التشنج في الرأي والتعصب في الطرح. ومما يروى في حوار جرى بين اثنين أن أحدهما قال للآخر: هل لك في الحوار؟ فقال: «على عشرة شروط: ألا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبل على غير وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلاً، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك، إلا جوزت لي تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلا منا يبغي من مناظرته أن يكون الحق ضالته والرشد غايته). أليست هذه قواعد ذهبية للحوار تغنينا عما سواها! ترى لو أننا التزمنا بهذه القواعد هل سيبقى هناك من يخاف أن يدلي برأيه؟ هل سيبقى هناك من يخاف الحوار ويخشاه؟! هل سيبقى بيننا وفينا من يداهن ويتملق ويستميت من أجل تشويه صورة الحوار من أجل تحقيق مطامع شخصية؟ أما أنا فأجزم إن تحقق الحوار بتلك الشروط فلن يجد هؤلاء مكانا بيننا (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). إن الهدف من الحوار هو عرض وجهات نظر متباينة وإلا اما أصبح حواراً لأن أطراف الحوار إذا كانوا يتحدثون باتجاه واحد ولا وجود للاختلاف بينهم في وجهات النظر لم يكن ذلك حواراً.. وهذا يعني أنه لا بد من وجود وجهتي نظر مختلفتين وأن لكل وجهة نظر فريقاً يدعمها ويدافع عنها ويتحمس لها بل ويسعى إلى تفنيد وجهة النظر الأخرى ضمن أصول وقواعد الحوار المتعارف عليها ويأتي في مقدمتها الاحترام المبتادل بين الطرفين المتحاورين. وما نشاهده اليوم على الكثير من القنوات الفضائية من زعيق وشجار في البرامج الحوارية المعروفة لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة الحوار الهادف بل هو في حقيقته شجار لا يمت للحوار المثمر بأي صلة وينبغي أن نربأ بأنفسنا عن مثل هذه الممارسات والصور غير الحضارية.. وإن الذين يتكسبون من وراء المشاركة في مثل هذه البرامج الحوارية إنما يسيئون إلى أنفسهم وإلى الأجهزة التي ينتمون إليها ولا يمثلون طبقة المثقفين المتحضرين في إدارة الحوار المثمر الواعي.. فلا بد أن يعاد النظر في مثل هذه النوعية من البرامج وفي كيفية تأهيل كوادرها وأن نعيد النظر في قبولنا لها كمستمعين ومشاهدين لنبتعد عن الغوغائية ونرتقي بأسلوبنا في الحوار حتى نتهيأ لقبول الرأي الآخر والرأي المعاكس ونحاورهما ونحترمهما وننتقدهما علمياً. والله من وراء القصد،،،